سبعة عشر عامًا في غيابات الأسر، وجدران الظلم، وسلاسل القيد، ومعاناة القمع، وقهر الاقتحامات داخل السجون الإسرائيلية ظلمًا وعدوانًا، كحال آلاف أسرى الشعب الفلسطيني، معاناة تقابلها صلابة التحدي، وقوة الإضرابات عن الطعام، ووحدة الأسرى وتكاثف الجهود، وحب التضحية من حريتهم وحرية وطنهم.
سبعة عشر عامًا قضاها الأسير المحرر محمود مصطفى الهندي في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأفرجت عنه سلطات الاحتلال في مساء متأخر ليوم الخميس 22 ديسمبر الماضي، لتلاحقهم حتى في آخر لحظات سجنهم وقيدهم، في تأخير متعمد وانتظار طويل لينغص على الأسير وذويه فرحتهم وبهجتهم، في سياسة منهجية ومستمرة مع كثير ممن أفرج الاحتلال عنهم في الآونة الأخيرة.
معاناة أسر
وخلال حديث "فلسطين الآن" مع المحرر محمود الهندي 39 عامًا من سكان محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، أوضح أنه اعتقل في أواخر التسعينيات في دولة الأردن لمدة تسعة أشهر، ليتم تسليمه بعدها للاحتلال الإسرائيلي، بعد مشوار من المطاردة والمقاومة منذ بداية التسعينيات.
ووفق ما أفاد الهندي أن المحكمة الإسرائيلية حكمت عليه بالسجن لمدة 10 سنوات في بداية الأمر، لتمدد بعدها الحكم لمدة 17 عامًا بتهمة إصابة مستوطن بسلاح أبيض على بحر محافظة خان يونس، والمشاركة في تدريبات عسكرية.
قال: "سبعة عشر عامًا فيها ما فيها من العذابات، وفيها ما فيها من المعاناة من القمع والاقتحامات والإضرابات"، مضيفًا: "لكن الأيام الأخيرة من الأسر تكون فيها العذابات مضاعفة، خصوصا أن السلاسل الحديدية لم تفارق يدي عدا عن الكراسي الحديدية، والاستمرار في دائرة مغلقة من التنقلات والبوسطات، حتى وصولي إلى حاجز بيت حانون".
لم يكتف الاحتلال بكل سنوات المعاناة التي قضاها الأسير الهندي في سجونه وداخل زنازينه؛ بل لاحقه حتى آخر لحظات الإفراج عنه بالانتظار وساعات الوصول الطويلة لأهله وذويه، في سياسة تنغيص متعمد تهدف إلى نزع الفرحة والبهجة بالحرية لدى الأسير وذويه.
وصل الهندي إلى معبر بيت حانون/إيرز في تمام الساعة الخامسة صباحًا، لتفرج عنه قوات الاحتلال الساعة العاشرة ليلًا ينتظره أهله في الظلام والبرد، ورغم ذلك صمد ذووه إلى ساعات الليل المتأخرة، وحملوه في موكب سيارات وطافوا به شوارع القطاع بمشاركة عناصر من كتائب القسام.
وأشار الهندي أن أكثر لحظات مؤلمة يعيشها الأسرى داخل السجون، هو خبر وفاة والدة أو والد أحد الأسرى، وقال: "رافقني هاجس مخيف طوال تواجدي في السجن أن أفقد أحد والدي أو مقرب مني، ولكن الحمد لله أن منّ علي بتكحيل عيني برؤية والديّ وأشقائي وشقيقاتي وأحبابي".
تحدٍّ وثبات
وأكد الهندي أن ثقافة التكاثف والوحدة والتعاون بين الأسرى بغض النظر عن انتماءاتهم التنظيمية كانت موجودة بين الأسرى، معتبرًا أن هذه الثقافة أهم ما يواجه به الأسرى السجان الإسرائيلي ويتصدون لهجماته وسياساته القمعية بحقهم، مشيرًا أن مصلحة السجون تنتهج سياسة "فرق تسد"، مشددًا "قضيتنا إذا فشا فيها التعصب والحزبية والتفسخ والانقسام، يكون من الصعب أن تتقدم بشكل صحيح".
وقال: "منذ بداية وصولنا للسجن وجدنا معلمين وقيادات وأخوة كبار، اهتموا بنا كثيرًا وعلمونا وزرعوا فينا الأدبيات الفلسطينية، أمثال نائل البرغوثي وعباس السيد وعبد الناصر عيسى وغيرهم، فكلهم أساتذة كانوا بمثابة قدوات تدعمنا نفسيًا ومعنويًا، مما جعلنا نصبر سنة وسنتين وعشر وأكثر".
وعبّر المحرر الهندي عن حزنه لمفارقة الأسير نائل البرغوثي أحد أقدم الأسرى الفلسطينيين الذين أفرج عنهم في صفقة وفاء الأحرار وعاود الاحتلال باعتقالهم، وقال: "تركت الوالد العزيز أبو النور وأنا مجروح بترك هذا العملاق، خرجت وهو جبل صامد في وجه الاحتلال، كشجر زيتون فلسطين الشامخ في السماء والمتجذر في أعماق الأرض، كمرب وأب حنون للأسرى جميعًا".
ونوّه أن الأسرى في هذه الأثناء بدأوا ينظمون أمورهم وأوضاعهم لخوض خطوات تصعيدية متدرجة لإعادة حقوقهم التي سلبتها مصلحة السجون منهم.
ميلاد جديد
واعتبر الهندي لحظة الإفراج ميلاد جديد، وقال: "لحظة الإفراج ميلاد جديد، من وطن محتل إلى وطن محرر، والفرق بين الاثنين شاسع، حيث يرفرف علم فلسطين بكل حرية"، ويستذكر موقفا ويضيف: "أعتذر من أمي لأني مزقت ملابسها يومًا من أجل أن أعلق علم فلسطين على أحد أعمدة الكهرباء".
وأشار أن أكثر ما يبهج الأسرى داخل السجون هي عمليات الخطف التي تنفذها المقاومة، لأن حريتهم مرتبطة بها.
وأكد أنه "لا يوجد حل لتحرير الأسرى إلى بالقوة والمقاومة والإكراه، والاحتلال لا يعرف إلا لغة واحدة هي لغة القوة والإكراه، وبالقوة يأتي السلام".
وختم بقوله: "رسالة الأسرى لكل الشعب الفلسطيني ومقاومته، أن الأسرى يعشقون حريتهم وحرية أرضهم وقدسهم، وهم من أجل فلسطين وحريتها ضحوا بأنفسهم وأوقاتهم، فواجبنا أن نقف بجانبهم، وهم أمانة في عنق الشعب الفلسطيني، أن يتحد في وجه الاحتلال".
