على بعد خطوات من الساحة الأمامية لمبنى البرلمان المغربي، يظهر كشك محمد المرضي الملقب "بالروبيو" (وتعني الأشقر بلغة أهل شمال المغرب)، أشهر بائع جرائد في شارع محمد الخامس بالعاصمة الرباط.
ويشكل منذ ثلاثة عقود مضت -مع صحفه التي عاش بها ومعها- جزءا من ذاكرة هذا المكان، الذي يعد حلقة وسطى بين مقهى "باليما" التاريخي وقبة البرلمان.
عندما تلقي عليه التحية، يكتفي بهزة سريعة من رأسه، وهو جاثم على ركبتيه يعيد ترتيب كتبه المتنوعة المتراصة بدقة ونظام، إلا البعض منها الذي ألقي عشوائيا بفعل عبث الزبائن، وتراه يقلب في المنشورات، ويقرأ العناوين، ويتصفح الأخبار، كأنها تخضع لرقابته قبل أن يبيعها لزبائنه، وكلما سأله أحد عنها يعطيه موجزا ويرغبه في التفاصيل.
تشعر كأنك تخاطب مثقفا كبيرا عندما تتحدث إلى هذا الرجل الذي نزح من إحدى قرى مدينة أزيلال (وسط المغرب)، بينما يجمع زبائنه على أن صحبته الوفية للصحف والكتب على مدار أربعين عاما جعلته "قارئا نهما ومهتما بالشأن العام، كما نمت شخصيته الاجتماعية"، رغم أنه لم يحصل على أي شهادات.
مهنة وثقافة
يقول الإعلامي والسياسي محمد السباعي إن "الروبيو" العصامي "ليس بائع صحف عاديا، بل هو مثقف أيضا بطريقة خاصة، أكسبته قدرة كبيرة على النقاش في مواضيع وقضايا تستأثر باهتمام المغاربة".
ويدين "الروبيو" بالفضل إلى نصيحة ذهبية تلقاها من مواطن أفريقي مر ذات يوم بمحله وسأله باللغة الفرنسية عن مجلة فلم يتمكن من معرفتها، فخاطبه "إن الذي لا يقرأ لا يمكنه بيع الصحف والمجلات".
يقول الروبيو "كان لهذه الكلمات وقع "صدمة في نفسي رفعت همتي لتعلم القراءة"، مضيفا "تعلمت بداية ضبط حروف عناوين الصحف كما ينطقها زبائني، وكما هي مرسومة أعلى الصفحات الأولى".
وذكر بامتنان كبير شرطيا كان يواظب في وقت دوامه أمام مقهى "باليما" على تعليمه كتابة ونطق حروف اللغة العربية، وبعدها ساعده أبناؤه على التعمق في القراءة.
تشجيع ودعم
وتتحدث ليلى -الطالبة بماجستير الحقوق- عن والدها بفخر واعتزاز، وهي تبرز كيف كابد منذ كان عمره 12 عاما، حين بدأ عمله بائعا للصحف، ليوصلها وإخوتها الثلاثة بهذا العمل الذي أحبه مهنة وثقافة إلى الجامعة، ويدفع بهم إلى حب القراءة.
ولا ينسى "الروبيو" -الذي امتهن بيع الصحف منذ عام 1978- تشجيع ودعم المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة، الذي كرمه ببيته عام 2001، عندما منحه جائزة "التواصل الثقافي"، اعترافا بجهوده في تحدي الجهل والأمية.
ويحكي كيف استطاع أن يعرف العالم من خلال زبائنه المتنوعين، الذين يبادلونه الحديث في كل المواضيع وهم يشترون منه الصحف، وكذلك نقاشات رواد مقهى "باليما" العتيق المحاذي لمحله، وكيف استفاد من أحاديث السياسة وكواليسها التي كانت تطغى على أجواء هذا المقهى.
مرجع الأخبار
بدأ شغف "الروبيو" واضحا بهذا المكان الذي كان محط السياسيين والمثقفين قديما، وكوّن علاقة معهم على مدار سنين عمله، لأنهم في رأي السباعي "يجدون لديه ما يفتقدونه لدى باعة صحف آخرين"، فمهنته "مما جعله مطلعا على الشأن السياسي والثقافي للبلاد، وكان مرجعا للباحثين عن آخر الأخبار".
من جهته، يقول الروائي عبد العزيز كوكاس "إن الروبيو شكل له دوما جسرا للمعلومة وخزانا لأفكار تلهمه في كتابة كثير من الافتتاحيات".
"الروبيو" يعرفه وزراء حاليون وسابقون، وسياسيون ومثقفون، ومنهم الروائي الراحل محمد شكري، الذي كشف "الروبيو" عن أنه أطلعه على رواية "زمن الأخطاء" قبل طبعها في جلسة ودية "بباليما".
بنّاء ثم نادل
ويروي "الروبيو"، الرجل الستيني، أنه اشتغل بداية بالبناء ثم عمل نادلا بمقهى، وأنه في سنوات عمله مرت بين يديه مئات الصحف التي صدرت ثم لفها النسيان، وعايش سطوع نجم صحف وأفول أخرى، وكان لبعضها وقع خاص في نفسه فاحتفظ بها في منزله.
ويرى الصحفي كوكاس أن "الروبيو" أضحى خبيرا باتجاهات القارئ وميوله، مضيفا أن "بعض رؤساء تحرير الصحف يقصدونه لأخذ فكرة عن مبيعات صحفهم".
ورغم عشق الروبيو هذه المهنة، فإنه لم يعلمها لأحد من أبنائه، لأنه يرصد بخبرته تراجع مكانتها. ويضيف بتذمر واضح، أنه من واقع "العزوف" الذي يهدد سوق القراءة بالمغرب "لم يكن أكثر إغراء آنذاك من قارئ ينتظر صحيفة ليعرف الأخبار، لدرجة أننا كنا نخبئ الجرائد للزبائن، عكس ما يجري اليوم، إذ أصبح الإنترنت كفيلا بتوصيل المعلومات والأخبار".