ألهب الشوق لقرية الكفرين المدمرة، قضاء حيفا، حنين اللاجئة الثمانينية يسرى محمد شحادة، وراحت تقص تفاصيل طفولتها وبيتها، ومسرح ألعابها، ولحظات النكبة المرة.
ورسمت شحادة المشهد الذي لا يفارقها، فقد كان والدها يدللها، ويجعلها تعتلى الجمل الذي يلتصق بالأرض بجوار عين البلد، ليرتوي من قبل أن ينهض.
تقول: كنت طفلة في السابعة، وحرصت على الذهاب إلى عين البيادر المخصصة للشرب، وقتها كانت البنات ألأكبر منا يحملن جرار الماء على رؤوسهن، وكنت أضحك حين تقع الجرة وتنكسر مع الصبايا قليلات الخبرة في حمل أوعية الماء المصنوعة من الفُخّار، أما أنا وبنات جيلي فحملنا المشربيات الصغيرة، وذهبنا للعين لنجرب حظنا، ولنتعلم وضع الجرة على الرأس.
ووفق ما تحفظه شحادة وأهالي قريتها، فإن قريتهم تعني بالتسمية القديمة (نجمة الصبح)، مثلما حملت أراضيها أسماء: الحواكير، والمرشقة، وتلة الزعترة، وأم القرامي، وطريق العرب الذي كان يربط القرية بمرج ابن عامر ويافا، والبيادر، وبئر خميس، ووادي البزاري، وعين البلد، ووادي العرائس، ووادي الحنانة، والمجنونة، وخلة النتش، وأم اليتامى، ووادي العرايس، وعين بكر، والمنايص، وخربة اللويبدة، ودير الهوى، وغيرها.
زمبيل تمر
أبصرت الراوية النور عام 1937 كما تفيد بطاقة هويتها، ويعلق بذاكرتها طريقة بيع العجوة وتخزينها في البيوت بوعاء سمي (زمبيل تمر)، فيما امتلك والدها بيتين، الأول من حجر وطين والآخر بقناطر، وكانت طيور السنونو والعصافير تعشعش في أعالي النوافذ، في حين لم تمتلك عائلات القرية كلها الأحواش التي تحيط بالمساكن.
تتابع: لم أذهب إلى مدرسة القرية، وعرفت من أمي (تمام الياسين) أنها للصف الرابع فقط، ومن يريد أن يكمل فعليه العيش في حيفا، التي كنا نذهب إليها، بباص يصلنا في الصباح ويعود بعد الظهر.
مُقايضة وعائلات
وتستقر في ذاكرة شحادة بقالات القرية الصغيرة، حين كان أحمد ألسعد وأمين اعلي وغيرهم يقبلان البيع بالمقايضة، فيأخذن القمح والبيض مقابل البضائع. بينما كانت البيوت مقسمومة لقسمين، تأخذ العائلة الأول المرتفع، وفي قاع البيت تضع الماشية، وتصعد في درج صغير للبيت. وانتشرت في الكفرين عدة بيوت امتلك أصحابها العلية ( بناء مرتفع يصعد إليه بدرج).
وما يقوله "الكفرينون" أنهم سمعوا شبانًا دخلوا إلى عين البيادر القديمة من أيام الرومان، وشاهدوا نفقًا، ومشوا فيه إلى أن انطفأت نيرانهم، دون أن يصلوا نهايته، فعادوا وسكنهم الخوف.
وتوزعت عائلات الكفرين على: سرحان، والغول، وخليفة، والعسوس، ونعجة، وعبد الجواد، والحاج يوسف، وأبو لبّادة، وأبو سرّيس، أما مختار البلد فكان أديب أبو نجمة، الذي كان من حيفا، بينما كان أمام المسجد الشيخ عبد الله الأحمد، ونعيم دروزة مدير المدرسة من نابلس، ومعلم من عكا.
عصابات وتدمير
واستناداً إلى الموسوعة الفلسطينية فقد احتلت العصابات الصهيونية القرية في 12 نيسان 1948. وتفيد سجلات جيش الإنقاذ أن القوات العربية انسحبت في اليوم التالي من منطقة تقع غرب الكفرين تماما. وكان هجوم فرقة "البلماح" على القرية جزءا من عملية شنت بعد معركة (مشمار هعيمك).
واستنادًا إلى صحيفة (نيورك تايمز)، فإن رئيس الوكالة اليهودية "دافيد بن غوريون" وقيادة (الهاغاناه) عندما رفضا عرض جيش الإنقاذ العربي وقف إطلاق النار في هذه المعركة، قررا أيضا مهاجمة نحو عشر قرى مجاورة للمستعمرة وتدميرها، من بينها الكفرين التي كانت أكبرها.
وذكرت الصحيفة نفسها في 12 نيسان نقلا عن إذاعة الهاغاناه إن "الكفرين كانت خامس قرية تُحتل من بين القرى المحيطة بمشمار هيعمك".
ويسرد المؤرخ الإسرائيلي بني موريس أن القرية دمرت جزئيًا خلال احتلالها, لكن التدمير النهائي تأجل أسبوعًا لخطة "البلماح" القاضية باستخدام القرية لتدريب الوحدات على القتال في المناطق المبنية. وفي 19 نيسان أعلمت هيئة أركان "الهاغاناه" بأن تدريبات فرق المشاة على القتال في المناطق المبنية أجريت جنوبي "مشمار هعيمك" وشرقها، وعند انتهاء التدريبات دُمرت الكفرين عن بكرة أبيها.
تنهي شحادة: خرجت وصديقتي نهلة شاكر إلى العين قبل غروب الشمس، وبعد وقت قصير شاهدنا الناس تخرج إلى اللجون القريبة، فمشينا معهم، وبتنا الليل فيها، ثم عدنا إلى الكفرين، وبعد ثلاثة أيام خرجنا من بيتنا مرة أخرى، وأقمنا فترة في أم الفحم، وطردنا منها، واستقر بنا الحال في مخيم الفارعة، ولا زالت الكفرين في دمنا.