أظن أنّي بحاجة إلى زيارة طبيب العيون لقدر ما جحرت وجحظت حتى أحسست أنّ عيني ستخرجان من محجريهما وأنا أحاول تنبيه شاب وفتاة يجلسان بجانب بعضهما البعض أو أكثر، وأمتنع عن دقة الوصف حفاظا على حياء القراء! أحيانا تكون التنبلة وشعار ترك الخلق للخالق الحل الوحيد لكثرة ما نشاهد من هذه المشاهد هذه الأيام، ولكن شيئا من خوف الله وحب المجتمع لن تجعل هذه المواقف تمرّ بسلام عليك، بل سيظل ضغطك يرتفع وينسمّ بدنك كلما رأيتها، وهذه علامة على صحة الإيمان، ولكن عيون الجاحظ لم تنفع مع الشابين ولا عيون الازدراء، بل صارا ينظران إليّ بازدراء لأنّي أتطفّل على خلوتهما العلنية، فقررت استخدام ما بقي لي من سلطة تربوية وقلت لهما: هذا حرم جامعة وليس حديقة، وكأنّي أقول لهما فقط احترما المكان، وتذكّرت أحاديث آخر الزمان عندما يقال لفاعل الفاحشة فقط لو أنّك استترت عن أعين الناس! في كل يوم نشاهد مثل هذا المشهد وفي أمكان محترمة ومفتوحة، كالجامعات ومعاهد العلم وأماكن العمل، وكثير من الشباب والفتيات سواء في قلة الحياء، لا ينفع معهم وعظ ولا توجيه لا بالحسنى ولا بالسوء! فغياب الرقابة البشرية تفتح الباب للتجاوز لمن لا تعرف نفسه أنّ الله موجود في الجامعة وفي المكتبة والشغل وتحت الشجر والحجر والدرج، وفي خائنة الأعين وما تخفي الصدور. شاب غريب يمسك بيد فتاة تتقارب أنفاسهما الحرى ولا أحد ينظر للأمر كجريمة، فما زالت الفاحشة الكبرى لم تُرتكب وما زلنا في الجانب الآمن safe side! وهذا السكوت هو الذي يشجّع الشباب على مزيد من التمادي! لماذا لا يعتبر خدش الحياء جريمة كالقتل والسرقة والنصب؟ ولماذا لا يجرّم مقترفوه؟ ألا يلعب هؤلاء الشباب بهؤلاء الفتياتـ، وفي حال جدّ الجد وإذا وقع الفأس في الرأس لا يتعرّفون عليهن، ثم ندخل في متاهات أكبر وجرائم أكبر، وفي ذلك يقول الرافعي: "ترى أحدهم شريفا يأنف أن يكون لصا ثم لا يعمل إلاّ عمل اللص في استلاب العفاف وسرقة الفتيات من تاريخهن الاجتماعي، وتراه نجدا يستنكف أن يكون في أوصاف قاطع طريق ثم يأبى إلاّ أن يقطع الطريق في حياء العذارى وشرف النساء!" الحب حلال وفطرة بشرية لا تحتاج إلى كيمياء وفيزياء لإثباتها والاعتراف بها، ولكن الحب من غير شرف ليس حبا، الحب من غير عقل يوجّهه ليس حبا، الحب من غير تحمّل للمسؤولية ليس حبا، الحب من غير حياء يزيّنه ليس حبا. ولكن ماذا أوصل الشباب لهذه المرحلة وقد كان الشاب قديما كما يروي الكاتب إبراهيم نصر الله في رائعته الملحمية (زمن الخيول البيضاء) يستحي من مجرد أن يصرّح برغبته في الزواج، مع أنّه رجل ذكر فحل شديد صياد فارس، فيلجأ لصحون البيت يكسرها إعلاما مبّطنا لأمه وأبيه أنّه يريد أن يتزوج، فهل كان رجال زمان أقل رجولة من رجال اليوم أم أكثر حياء؟ لماذا كان حلالهم حلالا صافيا وزواجهم مشروع عمر، والحب فيه قوي الأواصر تنميه العشرة والأولاد والحياة المشتركة والصبر على شظف العيش، وما يخلي بينهما سوى قضاء الله المحتوم، وكم من زوجة لحقت بزوجها أو لحق بها حزنا وكمدا بعد الفراق، وما تلاقيا قبل الزواج يوما وما سمِعَت منه أشعارا ولا كلاما معسولا، ولا اختبرته ولا اختبرها! وبالمقابل ماذا فعل الشباب المتفتح الفهلوي الذي قطع السمكة وذيلها ولف ودار واختار ست الحسن والجمال، أو بقي محتارا حتى عنس وهو ما زال يطوف بحثا عن ليلى موجودة في خياله فقط؟! وبعضهم يكون نصيبه سمراء سوداء العيون لا شقراء كالتي قطع سنوات شبابه بحثا عنها! لماذا لم يعد الشباب يفكرون بأخواتهم عندما يقابلون بنات الناس؟! وأنّ أخته أو ابنته في المستقبل قد تقف ذات الموقف فيضحك أو يلهو أو يكسر قلبها شاب مثلما يفعل هو؟ إذا لم يحسب حساب أفعاله فماذا عن الديان سبحانه الذي يستنسخ أعمال الناس ويجعلهم يحصدون ما زرعوه ولو بعد حين؟ لماذا اختفى الحياء من شبابنا وفتياتنا بحجة التفتح وفهم الحياة؟ لماذا لم تعد خدود الفتيات تحمرّ خجلا إذا ذكر موضوع الزواج؟ لماذا لم يعد الشباب، حتى كثير من المتدينين، يغضّ بصره بل يطوف بنظره في الآفاق بحجة الإطلاع والبحث عن شريكة المستقبل؟ لماذا لم تعد الفتيات يتحرّجن في الكلام مع الشباب ومناداتهم بأسمائهم؟ ولماذا أصبحت الصداقة والزمالة واقعية وإلكترونية شيئا مسلّما ومقبولا لا يخضع لمجرد التساؤل، بل إنّ الخوض فيه يعدّ رجعية وردة عن تقدّم الزمان؟! يقولون الزمان تقدم وما صلح للماضي لن يصلح للحاضر، ويغضون النظر أنّ الحياء خلق هذا الدين الذي لا يأتي إلاّ بخير وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في العلاقة بين الجنسين، ولكن الزمان لم يتغيّر لوحده، فالبشر وأخلاقهم وقيمهم هي التي تغيّرت وعلى أثرها تغيّر الزمان ولو بقي البشر على فضائلهم لبقي الزمان فاضلا وفضيلا، فالبشر يسبغون من صفاتهم على أيامهم وتاريخهم وأحاديثهم، وما ساء الزمان إلاّ بسوء أخلاق الناس، وقد افتخر الرسول بأمته الثابتة على الحق مع تغيّر الوقت فقال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين". بفقدنا لخلق الحياء بين الشباب والفتيات وفي العلاقات بين الجنسين فقدنا أجمل المعاني التي كانت تغلّف حياتنا ببركة، مادية ومعنوية، فقدنا الحب والغيرة والنخوة وأصبحت أبسط ممارسات الحياة والبديهيات كالزواج مثلا عملية معقدة تحتاج لسنوات لإنجازها ولف ودوران ودخول وخروج حتى لا يعود الشاب والفتاة من كثرة ما رأيا، يعجبهما العجب! في الماضي كان الشاب لا يتسوّر السور ولا يتشعبط فوق الحيطان ولا يذهب من وراء الأهل ولا يبعث برسائل في دفاتر المحاضرات ولا يفاتح وجها لوجه ولا ينتظر على الغدير ولا يجلس في مكان عام للتعارف المبدئي، دية الأمر بعض صحون يكسرها تفهم الأم فتنقذ الصحون والموقف، تبحث يومين وفي الثالث يتم الأمر، وإذا كنت لا تستسيغ الأمر فاعلم أنّي وأنت نتاج هكذا ممارسات لأجداد أفاضل خرجنا من أصلابهم ومنهم تعلّمنا أخلاقنا ومبادئنا. عفَّ الرجال وعفّت النساء فصلح المجتمع، وفرّطنا فكانت النتيجة ما نرى ونشاهد كل يوم بأم أعيننا الجاحظة أو الباكية أو اللامبالية أو الراضية بأن تشيع الفاحشة في أبناء وبنات المسلمين!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.