مرّت أول من أمس الذكرى الخامسة والأربعين لهزيمة الخامس من حزيران، 1967، ومرت قبلها بأقل من شهر الذكرى الرابعة والستين للنكبة. والمناسبتان جلبتا معهما ذكرى الهزيمة المرة التي مُنيت بها الشعوب العربية في المرّتين، مع ما أورثتاه من هزيمة نفسية وشعورية لم تتعافَ منها الأجيال التي نشأت في ظل الانكسار، وما زالت غير قادرة على تصديق فكرة أن الزمن تغير، وأن عصر الهزائم لن يظل ساكناً بين ظهرانينا!. إحياؤنا لذكرى هذا النوع من الهزائم المريرة ما زال مرتدياً ثوبه التقليدي الذي لا يتسع إلا للتأكيد على الحقوق ويوقظ في الذاكرة مسلّمة انتفاء نسيانها، فيما الحقيقة تقول إننا ما زلنا أسرى استشعار ثقل الهزيمة، واستحالة تجاوزها. وحدها فعاليات العام الفائت من شبّت عن طور التقليدية وحملت مفتاح الفعل، وترجمت مشاعرها حراكاً واسعا داخل فلسطين وخارجها، لأنها كانت تحت تأثير لحظة الفعل العربي بحداثتها وفرادتها وروعتها!. على مستوى الخطاب، تحتاج أجيالنا الجديدة كما القديمة لمن يرصد لها محطّات التغيير التي جرت على واقع القضية الفلسطينية منذ النكبة وحتى اليوم، وتحتاج لمن يريها بصدق وتجرّد ذلك الخط التصاعدي في منحنى الأمل بكل ما راكمه الفعل المقاوم وما أنجزه، وما أثبته نهج التسوية من هشاشة وما جرّه على واقع القضية من تبهيت وجمود وتأخير لإنضاج ثمار المقاومة. وأن يريها في المقابل كيف كان الجهل العربي واختلال وعيه وتقبّله للتضليل ابتداء ثم للترويض لاحقاً بيئة خصبة لإنتاج الهزيمة وإدامتها، ولاستثقال النهوض واستبدال التباكي به، وإدمان النحيب وتعاطي (أفيون) المأساة في كلّ مفردات الخطاب وأبجدياته! قليل أولئك الذين يتوقفون ليتساءلوا: كم هو نصيب الشعوب من هزيمتها، وما مدى مسؤوليتها عنها؟ ذلك أننا اعتدنا تمجيد الشعوب لمجرد وقوعها ضحية للاستهداف، وبالكاد نمتلك الجرأة أو الشفافية لنتساءل عن دورها في تكريس نكباتها وإدامة واقعها، رغم أن قراءة سريعة لهذا الواقع تبيّن كيف أن ارتفاع منسوب الوعي فيما بعد، وتغيّر معادلته يعد تخلّصها من العناصر التي صنعت الهزيمة كانت البداية الحقيقية للنهوض بمشروع المقاومة ولبثّ قوة مضاعفة في مفاصله تمكنت من انتزاع تحرير غزة، وهي المحطة الأبرز على صعيد الإنجاز المقاوم، الفعلي لا الكلامي. وكذا حدث على صعيد الأمّة حين وعت شعوبها أنها تمتلك مفتاح التغيير، حتى وهي عزلاء ولا تملك ما تواجه به الطغمة الحاكمة سوى الإرادة الجمعية القادرة على الالتقاء على هدف إسقاط الطغاة حتى مع اختلاف المشارب الفكرية لمكوّنات الشعب وتياراته. فكما أن الاحتلال والهزيمة ليسا قدراً مفروضاً على الفلسطينيين والعرب، فإن الحكم المستبد البوليسي ليس بصمة أزلية في جبين تاريخ العرب، ولا هو قابل للتمدد والتسلّط بمضي الزمن. سيغادرنا الإحساس الدائم بلسع الهزيمة إن غادرنا مربعها الفكري والشعوري، وإن كانت نظرتنا للأفق مرسومة بواقعية الإرادة لا بالأحلام المؤجلة، وإن وعينا مكامن القوة وعوامل الضعف، فلم نستثقل الأولى ولم نتعايش مع الثانية، وإن أدركنا أن التغيير لا تصنعه يد خفية تمتلك قوة خارقة، بل هو رهين بيقيننا باستطاعتنا المبادرة إليه وتشكيل معالمه. لأن (الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم).
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.