فجأة تذكر أن له صديقا، بعد إن هام شاردا فاقدا للرؤية وبلا طريق، ثم نظر إلى الجدار البعيد وإذا به معلق على مسمار ذلك الصديق، ابتسم وكأنه وجد ضالته وركد إلى حيث المسمار والعود المعلق عليه، إنه الصديق، الذي بترانيمه يعبر وينطق بما في الصدر من هموم وشجون. عود من وتر وخشب له إحساس فاق إحساس البشر، أوتار وخشب وريشة وأنامل دقيقة بين خيوطها نغم وطرب، مبتسما مسح الغبار الذي اعتلى عوده المهجور من سنين بعد أن أخذته الدنيا في متاهات السنين بحثا عن جديد منصب رفيع أو مال وفير، أو بطانة يتربع عليها سيدا. احتضنه وأخذ يحدثه والدموع تتساقط على الأوتار محدثة رنينا، ثم نزع ريشته وأخذ يداعب الوتر تلو الوتر فاختلط النغم الصادر من الدموع والبكاء والأوتار ، والحال كذلك وإذ بالأنامل تدق الأوتار وكأنها الطبيب الذي يضرب الألم ويعيد الإحساس المفقود لتعود الحياة من جديد لجسد أنهكه طول النظر وكثرة الأماني والأحلام بحثا عن خلود زائف وبريق لا يصمد أمام أشعة الشمس الكاشفة للزيف. آه يا عود... ، ما أجمل العُود إليك وأنت الصديق الحبيب الرقيق...، لا تلمني فلست مثلك ... أنا إنسان، أنا بشر ... أنا تيارات الهواء المتقلبة الباحثة عن مطر في تموز ...، لست مثلك فأنت الصبر والخشوع الباكي بلا ألم ، الصارخ في الجموع ...، مختلفون ولكن أمام لغتك يقفون متفقين على أنك المعبر عن أحاسيسهم وإن اختلفوا في الهوية واللغة والعقيدة. صمت قليلا فصمت العود ولا حراك، ارتعدت الأنام وتوقف هز الوتر ، سكون رهيب وكأن شيئا يهبط من السماء، تصبب عرقا وخار الجسد مغشيا عليه، وسقط العود واقفا ليحمل الجسد الساقط وانتظر... صوت من بعيد كسر السكون وكأنه الروح تحوم حول جسد لا يحمله إلا عود من خشب بداخله نغم، نهض صاحبه وتحسس مرة أخرى أوتار عوده الذي صدح وكشف ما جاش في الصدر من ألم، وكأن العود يتأوه كما الليل لحبيبين مفارقين على عجل. اهتزت الأوتار من جديد وانكسر الصمت وإذا بالمكان يموج بالعاشقين للانعتاق من الوهن، الباحثين عن النغم المغرد بلا قيد، الحر بلا حدود، المنطلق في فضاء رحب تحيطه قلوب حانية وأيد رقيقة وهمسات كما النسيم في تموز المطر. يا صديقي قالها العود : لا تحزن فالخير وإن بدا مفقودا كثير، والعيب في الطريق ومن يسير، والطرق متشعبة المعوج فيها أكثر من المستقيم، والاختيار أنت عنه مسئول، فلا تلم، ونفسك لم، لأنك لم تحسن اختيار الطريق والصديق. صمت العود ونهض صاحبنا بعد أن شق الفجر سكون الليل وهو يقول : صدقت يا عود فأنا المسئول ...
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.