فالديمقراطية أيضاً كيمياء ولابد من إذابة عدة عناصر في بوتقتها كي تكون قابلة للحياة وتجتاز الاختبارات العسيرة، ومن يفحصون عينات من الديمقراطية في مختلف العصور بدءاً من أثينا قبل أكثر من عشرين قرناً لن تكون نتائجهم وتقاريرهم سليمة إذا غاب عنها ذلك البعد الثقافي للديمقراطية . وحين تدرج الغرب من الماغناكرتا البريطانية قبل عدة قرون إلى عصر النهضة والثورات الأوروبية، سواء على صعيد المنطقة والأفكار أو على صعيد سياسي وصناعي، لم يكن حرق المراحل بالنسبة لهذا التطور ممكناً، إلا في الحالات النادرة التي ظهرت فيها تيارات راديكالية سرعان ما انطفأت أو انكفأت على نفسها داخل شرانق أيديولوجية . إن شبه الديمقراطية شأن كل الأشباه هو النقيض الفعلي والعضوي لها، ومن الخطأ اعتبار الديكتاتوريات نقائض للديمقراطية لأن الأشباه تحجب الأصول، وتجهض بل تصادر أية ممارسات جادة من أجل التغيير . وإذا كان شبه البطل في السينما هو الكومبارس فإن التاريخ أيضاً عرف مثل هؤلاء الأشباه، الذين تحولوا إلى كاريكاتور وأمثولات في السخرية، لأن الوقائع كما الأشخاص لا تتكرر إلا في إحدى صورتين، المأساة أو الملهاة، وإن كانت الملهاة هي الأغلب . لقد وجد الأباطرة والقادة الكبار في التاريخ من يقلدونهم عبر مختلف الأزمنة منذ يوليوس قيصر والإسكندر الأكبر حتى ديغول وستالين وبسمارك قبلهما، لكن النتائج كانت كوميدية بامتياز، بسبب اختلاف الحيثيات والظروف والقرائن التي صاحبت ظهور هؤلاء القادة . الديمقراطية الناقصة هي قدر البشر الحالمين باكتمالها، هذا ما قاله عديدون بدءاً من جان جاك روسو حتى ونستون تشرشل، لكن مفارقتها الخالدة هي كونها تتغذى من هذا النقصان، لهذا لن تكون جزيرة في محيط ما دامت هناك جهة من اليابسة لم يتسرب إليها الماء . ولكي لا تتحول بعض المصطلحات ومنها الديمقراطية إلى حجارة كريمة أو أيقونات عصية على التفكيك، علينا أن نقرأها كما هي في التاريخ ومن خلال السياقات التي أفرزت أنماطها المتعددة . لكن الحرمان المزمن من أي شيء يحوله إلى فردوس مفقود، وشيئاً فشيئاً يغادر شروطه الأرضية ليقارب الأسطورة، ويكفي لأي شخص من عصرنا أن يتساءل: ألم يكن اليمين الأمريكي المتطرف الذي دمر نصف العالم بحروب ما بعد الحداثة أو حروب الاستباق، نتاج ديمقراطية ناقصة؟!