خمسة عشر عامًا بين أقبية السجون وغرف التحقيق وظلمات الزنازين، بين التحدي للسجان وقيوده وبين المعاناة الكبيرة من الحرمان والبعد والغربة والقيد وسلب أهم مقومات الحياة وهي الحرية، معاناة يتجرع مرارتها آلاف الأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي.
على مدار خمسة عشر عامًا من السجن لم تكتحل عينا الأسير المحرر محمود سبع العيش برؤية ابنيه الاثنين يوسف وإيمان، فكانت رؤيتهم لحظة الإفراج عنه أكبر فرحة غمرت قلبه، جعلته يستيقظ كل ليلية أكثر من مرة ليتأمل ملامحهم ويحضنهم ويقبلهم يعوض شيئًا من وقت الفقد والبعد.
وأفرجت قوات الاحتلال الإسرائيلي يوم الأحد الماضي 27/8 عن الأسير محمود عبد العزيز سبع العيش، بعد أن أمضى في سجونها 15 عامًا بتهمة الانتماء لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، وأعدت "فلسطين الآن" هذا التقرير خلال مقابلة مع الأسير المحرر.
تحدٍ بالعلم
ولد الأسير المحرر محمود عبد العزيز سبع العيش في مدينة رفح عام 1975م، في عائلة تعود جذورها الأصلية لبلدة سلوان في القدس، وتزوج وأنجب ولدين يوسف وإيمان ولظروف عائلية انفصل عن زوجته بعد ثلاث سنوات من السجن، وأنهى دراسة بكالوريوس تربية إسلامية.
ويشير سبع العيش خلال حديثه أنه حقق إنجازًا داخل السجن من خلال شهادته حيث وقع على عاتقه تدريس إخوانه الأسرى في سجن "ريمون"، وقال: "وربنا وفقنا وأنجزنا معهم مشروع الدبلوم والبكالوريوس ومشروع محو الأمية ومشروع التعليم الموازي، فكان يقع على عاتقي تدريس الشباب والحمد لله استطعنا أن ننجح في هذا المشروع وحققنا إنجازات".
واعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي سبع العيش في تاريخ 28/8/2002م على حاجز "أبو هولي" في ظل وجود الاحتلال في قطاع غزة، وحكمت عليه بالسجن 15 عامًا بتهمة الانتماء لكتائب القسام.
عصافير التحقيق
وأوضح الأسير المحرر أنه مكث في التحقيق 92 يومًا في زنازين سجن عسقلان، مؤكدًا أن أكثر الأمور صعوبة داخل زنازين التحقيق هي العملاء أو ما يعرف بـ"العصافير"، بحيث يوهموا الأسير بانتهاء التحقيق معه فيبدأ بتقديم اعترافاته.
وقال: "أي إنسان لا يعرف طبيعة السجن يقع في شرك العصافير بنسبة 90%، فالاحتلال يعيشك بواقع كامل بحث تأكل معهم وتشرب وتنام ممكن أسبوع ممكن شهر ممكن شهرين، بحيث تتأقلم مع هؤلاء العملاء وكأنهم أسرى حقيقيين ويمثلوا عليك الدور كامل".
وأضاف: "هؤلاء يوصلوك لمرحلة أن الكل يشك فيك ويضعوك في زاوية حتى تحكي وتعبر عن نفسك أنك مناضل وعملت كذا وكذا حتى تبعد عنك شبهة العمالة، فيكون الأسير محاصر من جميع الاتجاهات، وهذه كانت من أصعب المراحل داخل التحقيق لجميع الشباب وكل يوم الاحتلال يبدع طرق جديدة وكثيرة ومتعددة".
وأشار أن التعذيب الذي يمارسه الاحتلال خلال التحقيق هو نفسي بالدرجة الأولى، لافتًا أنهم "مثلا يهددون أسير في بيته فيصوروا بيته على جهاز الكمبيوتر ثم يهددوه بهدمه وقصفه، أو يحضروا صورة لزوجته ويهددوا باعتقالها أو أي أمر آخر، وبعض الأخوة أحضروا أمهاتهم في التحقيق وهي مقيدة للضغط عليه".
وبدأ سبع العيش بعد فترة التحقيق جولة في المحاكم مكثت سنتين، حيث أصدر الاحتلال حكمًا بسجنه 28 عامًا في بدء الحكم، ومع تعيين محاميين واستئنافات كثيرة تم تخفيض الحكم إلى 15 عامًا و8 آلاف شيكل غرامة، بتهمة الانتماء لكتائب القسام ونقل سلاح وتشكيل خلايا.
معاناة التنقلات
ووصف الأسير المحرر وضع الأسرى بأنه "صعب جدًا جدًا"، مشيرًا أنه قبل خروجه كانت هناك حملات تنقلات لأقسام كاملة وليس لغرف، بحيث ينتقل كل القسم إلى سجون أخرى بشكل كامل ويعود إلى مكانه بعد شهرين.
وعن معاناة التنقلات التعسفية للاحتلال وصف "المعاناة أن القسم سيرجع على فوضى كاملة، بحيث يدخل الأسير على الغرفة لا يعرف الملابس من الزيت من الزعتر كل الغرفة تكون على بعضها، فالأسير يشعر كم هي الحرقة والتنغيص في الغرفة التي عاش فيها سنوات وكونها وأصبحت كمستقرة".
وتابع: "طبعا يفعلون ذلك بحجة أنهم يبحثون عن أجهزة، وفي حال لم يجدوا جهازًا يخربوا كل الغرفة بزيادة بصورة انتقامية ناهيك أن تجد البلاط مخلع والأرضية مخلعة ولا يوجد مواسير مياه، فلا تجد مياه، والحياة تكون صعبة جدا، بحيث تحتاج أن تبدأ من جديد، عدا عن أموال الأسرى في الكانتين الموجود في القسم لا يبقى منها شيء".
ويتابع بوصف معاناة التنقل: "مرحلة التنقل تكون من أصعب المراحل، تدخل عليك وحدات خاصة وحدات قمع، تدخل بكل وحشية تجر الأسير على الأرض وتقيده من الخلف ولازم يضعوا رأسه في الأرض، وفي أي وضعية تكون فيها يرتكب هذا القمع كنت نايم كنت مستيقظ في أي وقت وأي ساعة ولو كانت قبل الفجر، والذي يحاول أن يتحرك يضرب".
وأضاف: "فجأة وأنت نايم في برشك يدخلوا ويفتشوك تفتيشا عاريا، وبعدها ينقلك في بوسطة ولا يوجد أي إنسان يدخل البوسطة إلا ويتقيأ من كراهية الرائحة التي توجد فيها، وأنت مقيد، وهذا عذاب حقيقي، وعندما ينقلك إلى سجن آخر أو يعيدك إلى قسمك مرة أخرى تتكرر نفس مسلسل المعاناة".
فرحة وآلام
وعدّ سبع العيش أن موقف الطلاق كان من المواقف الصعبة التي عاشها داخل السجن بسبب تفكيره في مصير أبنائه، ولم يمض على هذا الأمر عام ونصف إلا ويصله نبأ وفاة والدته، يقول: "جاء خبر وفاة أمي فشعرت بأن ظهري كسر لأنها كانت ترعى الأبناء وتحتضنهم فكان الأمر صعب".
وأصيب داخل السجن بوعكة صحية شعر فيها بالغربة والألم المضاعف، لافتًا أن مرض ابنه ودخولها المستشفى بسببه أثر عليه.
وقال: "الأصعب من ذلك كله لا يوجد زيارات بشكل نهائي، يعني أول مرة أشوف فيها أبنائي هي لحطة خروجي من السجن، رأيتهم وهم أطفال عام ونصف، فالآن أستيقظ ليلا وأقبلهم وأحتضنهم، علشان أتطلع في ملامحهم لأني لم أكن أعرفها بشكل حقيقي، أول مرة أحضنهم يوم ما خرجت".
وعن تنغيص الاحتلال على فرحة الإفراج في اللحظات الأخيرة، يروي سبع العيش: "أنزلوني على بوابة إيرز وبقى معي ضابط المخابرات بجانبي يحاول أن يستفز في ويشتمني، وأدخلوني على بوابة التفتيش حوالي 10 مرات، لدرجة أني أصبحت أفكر أنهم يريدون أن يحولوني إداري ويعيدوني إلى السجن وبعدها أجلسني في مكتب عنده خاص وأخذنا نتبادل الشتائم، وفي الآخر قال بدي أفرج عنك ولكن إذا أي حركة شمال أو يمين سيكون عندك صاروخ".
وتابع: "الحمد لله لآخر لحظة ونحن نعاني معهم، ولكن لحظة الإفراج كانت لا توصف، رأيت فيها أحبابي وأولادي أول ناس وشعرت كم هي الفرحة والعزة ودخلت غزة وكنت سعيد جدا وأنا أتأمل في الشوارع، كل شيء أتأمل فيه من كثر شغفي واشتياقي، وإخوانا أهل الضفة قبل غزة كلهم يوصوني كل ما تراه في غزة قبله".
وعن رسالة الأسرى قال: "عندما قبلني الشيخ جمال أبو الهيجا وهو يودعني قال لي رسالتنا أننا ننتظر في أقرب وقت الخبر العاجل صفقة ثانية كوفاء الأحرار".


