28.33°القدس
27.97°رام الله
27.19°الخليل
30.55°غزة
28.33° القدس
رام الله27.97°
الخليل27.19°
غزة30.55°
الأحد 28 يوليو 2024
4.71جنيه إسترليني
5.17دينار أردني
0.08جنيه مصري
3.98يورو
3.66دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.71
دينار أردني5.17
جنيه مصري0.08
يورو3.98
دولار أمريكي3.66

سنديانة

17
17
براءة عمران

ربّما لم يُخلِّدُ التاريخُ أسماء آبائنا ولم تُسَطِّر كُتُبَهُ أسماء أُمهاتِنا ولا أجدادنا، رُبّما لم نُعامَل إلا كأرقامٍ في دائرة الإحصاء وكحالةِ ولادةٍ في المشافي أو كحالةِ مرضٍ في غرفةِ الطوارئ أو كحالةِ وفاةٍ تُحسَب إذا ما دُوِّنتْ سجلات الزيادة الطبيعية في نهاية الأعوام زيادةً أو نقصانًا!

ربّما عُومِلنا كَمتنِ حاشيةٍ في نصٍّ من كتابٍ في الصفحات الأخيرة، تَمُرّ عينُ القارئ عنها سِراعًا بُغيةَ التخَفُّفِ من كلام المؤلف، صفحاتٌ مُهترِئة عافَ عليها الزمن، لا تَمتَدُّ إليها الأيدي، جُنّتْ بالغُبارِ كسهمٍ حابضٍ بين يدي الرامي، إذا رُفِعَ أمام عيون المارّةِ لتشتريهِ جاسَتهُ إلى غيره، فلا غُنّيَ له مليحةٌ بخمارٍ أسودِ ولا ناسكٌ متعبّد قامَ يُصلي في المسجدِ!

ربّما لم يترك لنا تاريخ العائلة ذلك الميراث الذي يُذكَر، ولا كانت المجالسُ لنا أو حتى كما أوهمونا أننا لسنا أهلًا لها، محضُ رجالٍ ونساءٍ خرجنا من بيوتنا كي نركض خلف الحياةِ عُريانًا بلا هدفٍ ولا غاية، همُّنا أن نبحثَ عن لقمةٍ آخر النهار نسُدُّ بها حُلوقَ صغارنا، فَننامُ على كتفٍ يهزُّ الجسدَ وجعًا، وعينٌ رَأَتْ فسكتتْ فبَكَتْ، ولمّا بدأتْ تغفو أيقظها مُنبّه الخامسة!

كانتْ حواجبُ الصُّبح - في صغرنا - تلوحُ لنا كلّما أمسكنا بأيدينا الغضّتينِ بذورَ القمحِ فَنُغلِقُ عليها قابضينَ بشدّة خشيةَ سقوطِ حبّة منها سهوًا.

كلّما تسابقنا إلى الحقولِ نبذُرُ في حَدَب الأرضِ منها ونسكُبُ فوقها الماء، كنّا وكأننا نسقيها بعَبَراتنا فرحًا بصَنيعِنا، ثمّ نأتيها سيرًا أَحَذًّا صباحَ يومٍ مُشرقٍ قبل ذهابنا إلى المدرسة مُطمئنين أنها بخير مُرسلينَ قُبلاتٍ بريئة، ثمّ ترانا نتسابقُ وحقائبنا على ظهورنا أَيُّنا يصلُ أولًا!

كانَ الوطنُ شجرةً نستظِلُّ بظلّها في يومٍ قائظٍُ بعدما أنهَكَنا مسيرُ العودة من المدرسة إلى بيوتنا..

كانَ وردةَ حنّونٍّ حمراءَ نقطفها من مرجٍ أخضرَ أزهرَتْ قبلَ مثيلاتها..

كانَ زهرةَ ليمونٍ أمام نافذةِ البيتِ كلّما هبّتْ أنسامُ الليل فاحَ شذاها في الأرجاء..

كانَ قلبًا دافِئًا نرتمي بحضنِه إذا ما هتَكَ الخوفُ حُجُبَ قلوبنا..

كنّا نأكلُ على أرضهِ ونَنامُ فوقَ طرقاتِه ونُزيل الأذى عن ظهره ونَعُدّ النجومَ في ليالي صيفِه!

كانَ الوطنُ عرقُ جبينِ والِدينا، وشهادةُ تخرّجِ إخوَتِنا، وعُرسُ خِلّاننا، ومهرةُ فرسِ جارنا، وفرحة جدّنا بحفيدٍ ذكر، أو بطلقةٍ في سماءِ الفجرِ لأبٍ نجحَ ابنه في الثانوية، أو بزغرودةِ أمٍّ عادَ ابنها من غربةٍ أو حجٍّ!

كانَ الوطنُ في أبسطِ الظّنونِ صفًّا نترفَّعُ إليه،ِ ومسابقةً نحصد المركز الأوّل فيها..

كانَت حصة اللغةِ العربية بحروفِ الأبجدية نتَلعثمُ بها فينتهي الأمر بنا أن خلَطنا الفصيحَ بالعاميّةِ مُنتشينَ، ظَنًّا منّا أننا استطعنا في أقل القليل تركيبَ جملة، وكأننا في أبسط الظنون مَلَكنا زمام اللغة!

كانَت حصةَ التاريخ ليسَ ذلك الذي يصنعُ منّا ضُباطًا لا نعرفُ غير الكرهِ والعداوةِ والقتل والخيانات! كانَ الفتحَ والنّصر والطمأنينة والشرفَ والمجدَ المؤتَّلَ!

كانَ الوطنُ سائقَ «تكسي» لا يَغش، و مالٌ زاكٍ، ومعلّم يتفانى بعمله، وموظفٌ لا يتخلّف عن حضور الدوام..

لم نكن نُحامي عنه أو نُنَصّب أنفسَنا إلا لأننا شَهِدْنا له ما لم يشهده غيرنا، وبكى معنا كما لم يبكِ أحدٌ غيره، وجادَ لنا بما بخلَ به علينا أهله!

فما استَزمَرنا عند المحكّات ولا طلبنا المؤونة منه قاعدينَ، ولا أَزمَعَتْ صفوفنا لحظةَ عارضٍ طارئ دَلَقَ بنا في مَهَبِّ الريح، ولا خرجنا نُخازِمُهُ أو نُزَوِّقُ له ما يتعثّر به، ولا ضحكنا إذا زَيّلَ نَعشه أو تَباطأنا إذا زَيَّرَ جَحفلته!

نحنُ له وهو لنا، تُسبَل منّا العَبَراتُ إذا بَعُدنا سجيسَ الليالي، كفرسٍ نصَبنا صدرهُ فما صانَعَنا إذا صَوَّحَتِ الريحُ أحلامنا، فصِرنا عُنُقه وصار الغصنَ لنَجتَني الثمر، وظلّ على خُضرتِه كسنديانةٍ مُعَمّرةٍ ضَحِك السحاب فوقها فجاءت بالضِّحِ والرّيح!