18.27°القدس
17.78°رام الله
16.64°الخليل
23.24°غزة
18.27° القدس
رام الله17.78°
الخليل16.64°
غزة23.24°
الجمعة 04 أكتوبر 2024
4.99جنيه إسترليني
5.37دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.2يورو
3.8دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.99
دينار أردني5.37
جنيه مصري0.08
يورو4.2
دولار أمريكي3.8

فلتحذر كتائبنا السيبرانية

أ. حيدر المصدر
أ. حيدر المصدر
حيدر المصدر

الدعاية ليست مجرد مصطلح عابر، يقتصر على وصف ممارسة إعلامية، بل هي في أصلها نشاط إنساني، يعكس لجملة أفكار، يسعى كل طرف إلى تسويقها بوسائط جماهيرية متنوعة. وإذا كانت مواقع الإعلام الإجتماعي إحدى هذه الوسائل، فمن الضروري الإشارة إلى كونها عشوائية، غير مركزية، تستحث مشاركة جماهيرية، لا ترضخ لمبدأ التوجيه والضبط، ولا تملك ذات مقدار الوعي الذي تتميز به الأشكال الإعلامية التقليدية. فغياب الإدراك المطلوب لدى المستخدم، يعني الكثير من الأخطاء، التي قد تجد طريقها للخصم، ليستغلها على أحسن وجه. وحتى نرسخ لوجهة نظرنا، التي ترى قصوراً في الممارسة الجماهيرية الفلسطينية على شبكات التواصل الإجتماعي، لابد من تأكيد حقيقة جلية، تعكس لمنهج خصمنا في إستغلال أخطائنا.

فمنذ لحظة إعلان إنطلاقة المسيرة، حرصت ماكنة الدعاية الإسرائيلية على تحريك مختلف أذرعها، سيما السيبرانية، في محاولة لإحتواء التداعيات، وتقليص أي ضرر متوقع على صورة الكيان. لهذا، دأبت صفحاتها الرسمية الناطقة باللغة العربية على إعادة تدوير رسائل، جلها مرئي، وبمنهجية منتظمة، لتحقيق أهداف عدة، أهمها ربط المسيرة بحركة "حماس"، أو نزع طبيعتها الشعبية السلمية.

وكي تحفظ لنفسها المصداقية، انتهجت "إسرائيل" أسلوب جديد، شديد الفاعلية، سأسمح لنفسي بتسميته "التنقيب الدعائي". فهذا الأخير يقوم على رصد وتجميع المنشورات الشاذة، الصادرة عن نشطاء مسيرة العودة، لإستغلالها في إرساء دعاية مضادة، ترتكز على مبدأ مجابهة الدعاية لذاتها. أي أنه نشاط غير تقليدي، يقوم على إستغلال مساوئ ممارسات "الصحفي المواطن" في الميدان، للإفادة منها دعائياً، عبر إبراز المتناقض منها مع أطروحات المسيرة. فالسلمية تتحول إلى إرهابية بمجرد الوقوع على منشور يجسد أفرداً يحملون سكاكين، ويتوعدون "اليهود" بالذبح والثبور. والعودة تصبح فوضى بمجرد نقل تصريح يدعو لحرق المعابر. والمطلب الشعبي يتحول لمخطط إيراني بمجرد نشر مقولات تؤكد مساهمتها تمويل الأحلام الفلسطينية، فالدعاية الإسرائيلية باتت تتغذى على ما ننشره، لا على اجتهادها الخاص.

"إسرائيل"، التي يتضح يوماً بعد يوم، إلمامها التام بتكتيكاتنا الإعلامية السيبرانية، وقعت على ثغرة ترقى لمنزلة الكنز؛ فما ينشره المستخدم الفلسطيني، بوعي أو دونه، وفر مادة ملائمة تستجيب لمتطلبات الجهد الدعائي الإسرائيلي. وإذا كنا نظن أننا نحسن صنعا، فعلينا النظر إلى جانب الكأس الفارغ. وقد يجادل أحدهم بتبني الصحف العالمية للرواية الفلسطينية، ودليله إبرازها جرائم إسرائيل بحق المدنيين على صفحاتها الأولى، محاولاً الإقناع بنجاح الفعل الترويجي الفلسطيني.

عند هذه النقطة تحديداً نبدأ تفكيك الحقيقة بتجرد. فالتغطية الغربية وأطروحاتها الأقرب لنا، لا تعني إستجابة لتكتيك فلسطيني ناجح، بل على العكس تماماً، هي تفاعل لخطوط تحريرية ترى في إسرائيل، وبالتحديد نتنياهو، معضلة إضافية أبتُليت بها السياسية العالمية، إلى جانب تلك التي يشكلها سيد البيت الأبيض الجديد. فالعديد من الصحف الأمريكية والأوروبية لم تنطلق من قاعدة مناصرة الحق الفلسطيني، فهي بكل الأحوال لا تتبنى مبدأ العودة أصلاً، ولكنها رأت في الإجرام الإسرائيلي فرصة للتعبير عن رفضها السياسة الأمريكية، وخطواتها غير المحسوبة، خاصة ما يتعلق بنقل سفاراتها للقدس. هذه الحقيقة، تستدعي تساؤلاً حول قدرتنا فهم تفاعلات السياسية العالمية، وكيفية القفز في الوقت المناسب لإيجاد حالة تقاطع في المصالح، تستفيد منها القضية الفلسطينية، خاصة على صعيد الترويج.

وحتى نتعمق جزئياً في فهم الممارسة الإسرائيلية، علينا العودة قليلاً إلى العام 2009، الذي شهد أولى مراحل تطور فعلها الدعائي الحديث بشكليه الشامل والمتكامل. فالوعي بحقيقة تدهور صورتها عالمياً، دفع إسرائيل إلى تسمية مؤسسات، وتخصيص موارد بشرية ولوجستية، مهمتها فقط التأثير في المجال المعرفي للأفراد حول حقيقة الصراع. ولإدراكها المسبق بحاجة بعض الجغرافيات العالمية إلى مقاربة فكرية مختلفة، تبنت إسرائيل مبدأ دعائي يقوم على الحقيقة فقط، بعيداً عن أي ممارسة تحمل في طياتها تضليلاً أو مبالغةً قد ترتد على جهودها بالسلب. لهذا، وجدت في بعض المحتوى الفلسطيني ضالتها، عبر تدويره كما هو، ودون أن تتدخل في تكوينه، إلا في حدود التوجيه المتعمد.

وحتى يتجلى المعنى أكثر، سارت الدعاية الإسرائيلية وفق منحى متسلسل، استهلتها بجمع مختلف الهفوات الجماهيرية، ثم عالجتها دعائياً، كي تعيد نشرها داخل إطار معلوماتي جديد يخدم خطابها، وكأنها دليل إثبات، مُستشهد به من صاحب الرسالة الأصلية. فلو تأملنا مثلاً في بعض الصور والمقاطع الفلسطينية، لوجدنا بعضها ما خدم الرواية الإسرائيلية دون قصد، خاصة تلك ذات الكنه العسكري، أو التي ارتبطت بالأطفال والنساء. هذه الممارسة الدعائية البيضاء، ارتكزت على توظيف جهل الناشط الفلسطيني، بمستوى تأثير ما ينشر من رسائل، وقدرة الكيان على توظيفها الآني، ليتبين لنا في النهاية، أن أسلوباً جديداً آخذ في التشكل داخل أروقة التأثير الإسرائيلي، وليدخل الخدمة الدعائية من أوسع أبوابها.

 وأخيراً، ناشطو مواقع الإعلام الاجتماعي مطالبون بامتلاك الوعي الكافي الذي يؤهلهم اختيار ما ينشرون من صور ومقاطع، وألا ينجرفوا لمقولات المتحدث "يونتان كوننريكوس"، التي تقول بتوجيهنا ضربة قاضية لماكنتهم الدعائية. فالتأثير جهد لا يخضع لأحكام الضربات المميتة، بل لقواعد الاستمرارية والتركيز والكثافة، وهو الأمر الذي لازال يتفوق فيه خصمنا. أما أن نكتفي بتكرير مقولة أصلها إسرائيلي، لنؤكد تفوقنا دون تفحص وتحقق، فهو التضليل بعينه.