إن قصة الكهرباء في غزة لتشبه إلى حد بعيد مغامرات أليس في بلاد العجائب أو أيام ابن بطوطة في رحلته حول العالم، فحين تقطع الكهرباء عن غزة، تنقلب مفاهيم الديموغرافيا والجغرافيا والتاريخ والتوزيع الطبقي للسكان، لتتكون دولة جديدة مختلفة المعالم عن الدولة السابقة. ولاية غزة أثناء وجود الكهرباء تختلف تماماً عن ولاية غزة أثناء انقطاع الكهرباء، فلو كانت غزة مطمع للمستعمرين رغبة في نهب ثرواتها ومناجم الذهب تحت سقف أرضها، لواجه المستعمر صعوبة بالغة في الاستيلاء على غزة مهما كان عددهم، فالمواطن الغزاوي حين تقطع الكهرباء يتحول إلى وحش صنديد مستعد لتحويل ألف شخص إلى أعواد ثقاب يسلك بها أسنانه لو أتيحت له الفرصة ..!
إنها مشكلة قديمة بدأت معالمها في منتصف عام 2006 حين تم قصف محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة، في البداية شعر الناس بالاستغراب من الوضع الجديد، فالكهرباء تقطع لمدة ثمان ساعات متواصلة، والناس قد تعودت على أن تقضي هذه الساعات تحت الأضواء تشاهد التلفاز أو تتسلى بخرم الحائط لتعليق برواز جديد، أو لتسخّن طعام الأمس على الميكرويف إن كان هناك واحداً.. والآن بعدم وجود الكهرباء فقد صارت تتسلى بقضم أظافرها أو تنظيف المنزل أو زيارة أفراد من العائلة لم تزرهم منذ آخر كوبونة وكالة ..!
كانوا يعتقدون أنها مشكلة مؤقتة ستنتهي عمّا قريب، ووضعهم شبيه بالسجين المنتظر أن يُفرج عنه، فتجدهم جالسون على أطراف أصابعهم متوترون مستعدون للانقضاض على أي شئ، ينتظرون أن يأتي الضيف العزيز محملاً بالأنوار الساطعة، فلو سألت أي منهم عن "كيف حالك" فسيجيب بلا تردد بأنه " طافي "، وهذا يعني أنه من المفضل أن تبتعد عنه في هذه الأثناء وإلا قتلك بأسنانه ..! وحين تأتي الكهرباء تشعر بالفرق الكبير وبأنه أصبح "منوّر" حتى أنه على استعداد أن يبيع ذهب زوجته من أجل أن يساعدك في شراء مركب شراعي على شواطئ هونولولو ..!
لذا تعود الناس أن يتحدثوا عن أمور البزنس أثناء وجود الكهرباء فهي تعطي نتائج أفضل، أما عند انقطاعها فهم يتحدثون عن الأوغاد الذين يملأون العالم، وعن شرعية الانتحار شنقاً، وعن أفضل طرق صنع القنابل الذرية للاستعمال المحلي ..! وكلهم تبدو في عينيه تلك النظرة الخاوية التي وجدت في إنسان الكهف قبل ملايين السنين والتي تعني أنه " من المحبذ ألا تخطئ معي في أي شئ وإلا صرت تاريخاً " . وحتى تنقضي الساعات الثمانية فإن آخر دقائق من هذه الساعات تختلف، فالكل ينظر إلى ساعته ويقول " عندها أجت الكهرب " وعندما تأتي الكهرباء فكل واحد يذهب في طريقه ويتم تأجيل أي موضوع حيوي يتحدث عن إنقاذ الكوكب إلى (الشفت) الثاني في قطع الكهرباء، فعلى الجميع أن يستغل الكهرباء جيداً حين تأتي كما تعلم وليس من المحبذ إضاعة دقيقة واحدة في التفكير عن إنقاذ العالم ..!
طبعاً، هناك نوع من الخوازيق يختلف عما كان يفعله (فلاد الوالاشي) في العثمانيين قديماً، وهذا الخازوق هو ألا تأتي الكهرباء في موعدها، فغالباً ما تتأخر نصف ساعة أو ساعة وأحياناً تأخذها الحماسة فتغفو لمدة أربعة ساعات أخرى، تكون الناس في هذه الساعات قد تحولت إلى كائنات أخرى يتطاير الشرر من عينيها، ينعتون الأوغاد بأبشع الصفات، وكلهم يرغبون في ممارسة علم التشريح في من تسبب في زيادة عدد ساعات القطع .. ومن المفضل في هذه الحالة أن تبتعد عن الحيّ القاطعة عنه الكهرباء، فمن الممكن أن تشعر بالنيران تلفح وجهك من فرط الغضب البادي على الوجوه، ومن الأولى لك أن تهرب كأن الجحيم يطاردك ..!
الأمر السيئ الثاني أن الأمور لم تتحسن بعد، فالكهرباء لا زالت تقطع بنفس المنوال، وقد مرت أيام وأشهر وسنين والوضع لم يتغير، لذا بدأ الناس في التعود على ذلك، وبأن هذه مشكلة أبدية لا تحلّ إلا يوم القيامة مثل مشكلة الأوزون، المصيبة أنهم فقدوا الأمل في أن تعود كما كانت، فالوعود بحلّ المشكلة كانت تؤخذ على محمل الجد، وبأن الأيام القادمة ستحمل فرجاً لها، لكن الوعود تبقى وعوداً كما تعلم، والطين يزداد بلة كما يقولون، والناس لم تعد تصدق حرفاً كما لابد أنك استنتجت ..!
لذا كان لابد من التفكير في حلول أخرى .. لكن هذه حلقة أخرى سأحكيها فيما بعد ..