تعددت الصفات التي تقترن بالديمقراطية، فهي متوحشة أو أليفة أو نيئة تحتاج إلى إنضاج، لكن الهشاشة لم تكن ذات يوم صفة لأية ديمقراطية إلا إذا كانت قد بلغت شيخوخة تضطر معها إلى تجديد عافيتها، وكما هو الحال في مرض هشاشة العظام الذي يُعرض المصاب به للكسر حتى وهو يتثاءب أو يهبط عن سريره بلا تريث، فإن الديمقراطية تولد أحياناً مصابة بهذه الهشاشة، لأنها ملفقة من عدة مفاهيم متباعدة في الزمان والمكان وانتقائية تحذف ما لا يروق لدعاتها ودهاقنتها أو تضيف ما تشاء . ومنذ أول ميلاد إغريقي للديمقراطية وهي عصية على الترجمة إلى لغة أخرى غير لغة من ابتكروها، رغم أن سدس مدينة أثينا في تلك الأيام كان من الرقيق، وبالرغم من ذلك تصالح مع التجربة اليونانية حتى هؤلاء الراديكاليون في قراءة التاريخ ومنهم كارل ماركس الذي كان يردد دائماً أن اليونان هي الاستثناء لأنها تشكل باكورة الإنسانية وطفولتها . ولا ندري كيف تمكن البعض من تجريد الديمقراطية كمنجز إنساني مدني وحضاري من مقدماتها وقرائنها، بدءاً من أنماط الإنتاج السائدة في المجتمعات، وما أنفقه البشر من الوقت والطاقات وما دفعوه من ضرائب كي يحققوا هذا الإنجاز الذي لا يقبل حرق الراحل وإن كان أيضاً لا يتحول إلى صفر بحيث تعود الإنسانية مجدداً إلى الخطوات الأولى التي لثغت فيها بالديمقراطية والمساواة . الديمقراطية الهشة ليس بالضرورة أن تكون شائخة، فأحياناً تولد ديمقراطيات بهذه الهشاشة التي تجعلها ترسب في أول اختبار ميداني، وهذا ما كان يردده بعض الروس عندما يقولون أقشر جلد الروسي لكي يظهر لك على الفور السلافي، وهو مثل مرادف لما يقوله الفرنسيون رغم عراقة الديمقراطية وفق أدبياتهم، وهو أقشر الفسيفساء أو الرخام لكي يظهر لك الطين . قد تعيش الديمقراطيات الهشة في زمن السراء، وتبدو كما لو أنها استعراض عسكري لجيش لم يخض حرباً في حياته لكن الضراء هي ما يكشف المستتر والمسكوت عنه في ثنايا مجتمعات أحلت التواطؤ والنفاق السياسي مكان الحوار والمشاركة الفاعلة . فأية ديمقراطية تلك التي لا تقوى على منع حرب أهلية من الاندلاع لتعصف بكل شيء لمجرد أن زيداً أغضب عمراً ولم يضربه أو حتى يلمسه؟ لقد أدى الإفراط الكلامي عن الديمقراطية إلى إفراز ثقافة نظرية حولها، بحيث تبدو موسمية وللعرض فقط وليس للاستخدام، وهشاشتها تشبه هشاشة الكراسي الأنيقة في مداخل البيوت الباذخة التي لا تقوى على حمل طفل . وما قيل عن الجرائم التي ارتكبت باسم الحرية أثناء الثورة الفرنسية وفي أعقابها يقال الآن عن الجرائم التي ترتكب باسم الديمقراطية، فمن يقتلون شعوبهم وينكلون بهم يقولون إن هذا من أجل الديمقراطية القادمة التي لا بد أن تمر بمرحلة دموية، وهذا هو الشعار النازي الذي طالما ردده غوبلز عندما كان يقول إن الحرب الطاحنة هي أقصر الطرق إلى السلام . ولكثرة ما ألحق بالديمقراطية من صفات فقد تفلطح المصطلح كما يقول الفقهاء وأوشك أن يفقد دلالاته، خصوصاً بعد أن أصبحت الديمقراطيات المتوحشة والهشة في قفص واحد .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.