في الوقت الذي يُشيِّعُ فيه الفلسطينيون شهداءَهم في غزة والضفة الذين قضوا برصاص اليهود الغاصبين، وفي يوم الجمعة بالذات (26/10/2018م) تفتح بعض دول الخليج العربي أبواب ديارها على مصاريعها للمجرم اللئيم والسفّاح الأثيم نتنياهو لزيارتها مرحِّبةً بهذه الزيارة، بل مبادِرَةً لدعوته إليها، وكأنّما غاضتْ من عروقها دماء العروبة أو غارتْ من نفوسها حميَّةُ الإسلام، في حين كان العربيُّ حتى في أيّام الجاهلية لا يَقِرُّ له قرارٌ حتى يأخذ بثأره مِمَّنْ اعتدى على حريمه، ولا يهنأ له عيشٌ حتى يسترجع حِماه تحت ظلال السيوف، معتبراً هذا وسيلةَ الحياة الكريمة، وإلاّ فإنَّ بطنَ الأرض خير له من ظهرها وحياةَ ربّاتِ الحِجال أقمنُ به من حياة أشباه الرجال.
اللهُ أكبرُ، أهلُ فلسطين الذين لا دولةَ لهم ولا قوى عندهم مكافِئَة لقوى العدو، وهم محاصَرون ومحارَبون منذ سنين من القوى العالمية والمحلية، يتحمّلون على كُلُومهم، ويرفضون الاعتراف بدولة اليهود، لأنّهم غُزاةٌ غاصِبون، ويُقدِّمونَ كُلَّ يومٍ الشهيدَ تلوَ الشهيد، ويسخونَ بأجسادهم وأرواحهم في الدفاع عن حوزةِ الإسلامِ والذيادِ عن حِياضِ العروبة، وفي أتّون المعركة ولُجَّتِها، وكِياناتٌ عربية بعيدة عن جَوِّ المعركة ولهيبِها يرتجفونَ خوفاً، ويؤهِّلون بالذبّاح المجرم تماماً كَمَنْ يُهروِل إلى وِجار الضبع يتوسَّلُ إليها من رعبه وفراغِ قلبه، أنْ تقبلَ صداقتَه ليعيش في حِماها آمِناً، ولو رَشَّتْ عليه من بولها ما يطمسُ بصرَه وبصيرته.
إنّنا نعيش أياماً عصيبة ولحظاتٍ حرجة وامتحاناتٍ شديدةٍ، لا يثبُتُ فيها إلاّ كُلُّ قويِّ الإيمانِ عظيمِ الشرفِ مؤمنٍ بعظمة أمّته وعِزّة دينه، يدافع عن حياضه ويرفض بكُلَّ إباءٍ وأنََفَة أيَّ مستوىً من المساومات والإغراءات مع العدو، مما ينطبقُ على كُلِّ مقاوِمٍ لهذا العدوِّ الإسرائيلي من أبناء فلسطين، ولاسيّما المشتركون بمسيرات العودة في غزّة الذينَ أثبتوا أنّهم يُشكِّلون آخِرَ دِرعٍ في وجه غاراتِ اليهود من دروعِ هذه الأمّة، أولئكَ الذينَ قدَّموا خلالَ عدّةِ شهور أكثر من مئتي شهيد، وأزيَدَ من اثنين وعشرينَ ألف جريح يربو على خُمُسهم ذوو الحالات الخَطِرَة. وهم مع ذلك مستمرّون في نهجهم حتّى يُفَكَّ عنهم الحصارُ الظالم.
أجل، في هذه الظروف المأساوية وهذا الواقع الأليم لأبناء فلسطين وهم إخواننا في العروبة والإسلام. أهلُهم أهلُنا، وديارُهم ديارُنا، وتاريخُهم تاريخُنا، وقبلتُهم قبلتًُنا، يأتي الناطق الرسمي باسم ذلك البلد الخليجي - الذي تُمَدُّ للقاتل اليهودي فيه البُسُطُ الحمراء ليَخْطُوَ عليها بأمنٍ وأمان - ليقولَ بكُلِّ برودٍ واستخفافٍ بعقول أبناء هذه الأمة العظيمة، مسوِّغاً هذه الدعوة وتلك الزيارة الرذلة بغيرما مسوِّغٍ مقبول: (إنَّ إسرائيل دولةٌ موجودةٌ في المنطقة، ونحن جميعاً نُدرِك هذا، وربّما حانَ الوقتُ لمعاملتها بالمثل وتحمُّلِها نفس الالتزامات، وإنَّ التاريخ ليخبرنا أنَّ التوراة رأتِ النور في الشرق الأوسط، وأنَّ اليهودَ كانوا يعيشون في هذه المنطقة من العالم) منذ القدم!!
وأقول لهذا الناطق الذي يحسب أنّه يُحسِنُ صنعاً: إنَّ وجودَ قوّةٍ مّا – يا هذا – في بقعةٍ مّا في زمنٍ مّا، لا يعطيها الحقَّ في الاحتفاظ بهذا السلطان في أيِّ وقتٍ كان وعلى أيِّ حالٍ، وإلاّ كانَ لفرعون ونمرود والإسكندر المقدوني الحقّ بملكية مصر والعراق والجزيرة العربية، بل العالم كُلِّه إلى آخر الدهر. كما أنَّ جِوارَ شعبٍ لشعبٍ آخر لا يعطيه الحقَّ لمجرّد هذه المجاورة بالمطالبة بملكية أرضِ ذلك الشعب حسب ادّعائه، وإلاّ كان الحقُّ لأمريكا الآنَ أنْ تحتلَّ كندا وللهندِ أنْ تحتلَّ باكستان وللصين أنْ تحتلَّ اليابان وهكذا، بل إنَّ لليهودِ على هذا المنطق الحقَّ بخيبر والمدينة ووادي القرى. إنّه لمنطِقٌ غريبٌ وهَجِينٌ، أنتجتْه المؤامرةُ الغربية علينا مكْرَ الليل والنهار، بل منطقُ الانهزامية الذي مُنِينا به في هذا العصر لركوننا للذين ظلموا، فمسّتْنا النارُ.
ويزيدُ القول تهافتاً لهذا الطالع علينا اليوم بهذا المنطق العجيب بأنَّ بلاده وهي تستقبل ذلك اليهودي القاتل والذي ما زالت يداهُ الأثيمتان تقطرانِ من دماءِ أبناء فلسطين الآمنين من أطفالٍ ونساءٍ وشيوخٍ بقوله: (لسنا وسطاءَ بين إسرائيل والفلسطينيين، ولكنّنا نُقدِّم التسهيلات وأفكاراً لمساعدةِ الطرفين على التقارب)!! وما درى هذا القائل هُجْراً والناطق بُجْراً، أنَّ إثمَ المُسهِّل للجور والعدوان أشدُّ نكارةً من الوسيط، لأنَّ الوسيطَ قد يُنتَدَبُ للعمل وقد يكونُ في مقامٍ مُقدَّمٍ ومحترم، ولكنَّ المسهِّلَ والمُيسِّر للمنكر يكونُ ذنبُه أكبرَ وجرمُه أعظمَ، لأنّه حينئذٍ يتطوَّع بالنُّكْر ويبادر إلى الإثم، وما أدري ماذا يسمِّي صاحب هذا المنطق مَنْ يرى العيبَ على أهله ويسكت، بل يدعو إليه ويُسهِّله؟! وأقول له: هل أجْدَتْ كُلُّ الوساطات والتسهيلات وتقريب وِجهات النظر بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ ما يقربُ من ربعِ قرنٍ، أمْ أنّها زادتِ اليهودَ صَلَفاً وتباعُداً عن الحقِّ. وهاهم اليوم يُعلِنون فلسطين خالصةً لهم دون غيرهم من أبنائها الأصلاء.
بل يزيدُ الناطقُ كلامَه تهافتاً إلى تهافت بقوله - وهو يُدلِّلُ على صوابية تلك الزيارة الآثِمة، وكأنّه يدلُّ على صيدٍ ثمينٍ أو كنزٍ دفينٍ، ويقودُ إلى أمرٍ سامٍ وعملٍ نبيلٍ، بينما لا يسوقُ في الحقيقة إلاّ إلى استخذاء ولا يُسلِم إلاّ إلى خنوعٍ -: (ولا نقول: إنَّ الطريق أصبحَ الآنَ سهلاً ومفروشاً بالورود، لكنَّ أولويتَنا هي وضعُ نهاية للصراع والانتقال إلى عالمٍ جديدٍ). أجل، كأنّه بهذا المنطق وتلك الأقوال يُبشِّرُنا بشرفٍ رفيعٍ وطموحٍ عظيمٍ ويأخذُ بأيدينا إلى ولوجِ جِنانٍ أو فتوحِ بلدانٍ، نتحمَّلُ في سبيل الوصول إليها بذلَ كُلِّ جهدٍ وجهادٍ، ونذهلُ فيه عن أبنائنا والحلائل. وأقول للرجل: إنَّ اليهودَ وأنتَ تعلم قومٌ لا مواثيقَ لهم أو عهود، ولا رأفةَ عندَهم ولا رحمة، وإذا ملكوا شيئاً فلن يُعطوا منه ولو النقير، وأنَّ الحلَّ الوحيدَ معهم لتحصيل الحقوق قوله تعالى: (واقتلوهُمْ حيثُ ثَقِفْتموهُمْ)، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: (يا خيلَ اللهِ اركبِي).
ويُربي الرجلُ على كُلِّ ما تقدَّمَ من تهافتٍ بقوله: (إنَّ بلادَه تعتمدُ في سياساتها من خلال هذه الزيارة اليهودية وغيرِها على الولايات المتحدة ومساعي رئيسها ترامب في العملِ باتجاه صفقة القرن)!! وهنا يُكشَفُ المستور ويُباحُ المحظور، وهو أنَّ الرجل ودولتَه وعدداً من دول الخليج الأخرى كما صرَّحوا به في المؤتمر السنوي للأمنِ الذي عُقِدَ يوم الجمعة بالتاريخ المذكور آنفاً في إحدى هذه الدول، مؤيِّدون لهذه الزيارة الدَّنِسَة وداعون للتطبيع مع اليهود وتصفية القضية الفلسطينية، على وَقْعِ أقدام نتنياهو ومدامه (المصون) ورئيس مخابراته الذي ذكَّرني اسمه بإيلي كوهين (كامل أمين ثابت) الجاسوس اليهودي الذي كادَ يصل في بعض الدول العربية إلى وزير إعلام وقد تفقَّدَ جبهةَ القتال التي وقعَتْ على إثرِها حرب حزيران (1967م)، مما كان يبعث بأخبارها أوّلاً بأول بالشيفرة لدولته (إسرائيل)!!
وهل لي أنْ أقول أخيراً أو قبل الأخير: أَعادتْ أطراف الجزيرة اليوم – واحزناه – تحِنُّ إلى مناكفة الإسلام وتعملُ لذلك جاهدةً، وتسعى في الوقت نفسه إلى مغازلة اليهود وتهروِلُ صوبَه حثيثاً؟! فمن هناك كانَ مسيلمة والحُطَم والأسود وأضرابهم وبنات اليهود اللواتي رَقَصْنَ رقصة المومِسات على ساحل بحر العرب طرباً لموتِ الرسول صلى الله عليه وسلم وفرحاً بظهور الأنبياء الكَذَبَة حينئذٍ. أمّا فلسطين أيها القوم مِمَّنْ يُوالي اليهود كما فعلَ ابن سلول، ويا أيها الأشاوس مِمَّنْ تتحاملون على جراحكم من أبناء فلسطين، فاعلموا جميعاً أنَّ هذه الأمةَ لن تهون ولن تموت وأنَّ النصرَ لها بإذن الله وهو قادمٌ لا محالة، وأنَّ جَمْعَ اليهودِ إلى تتبير وبوار. وختاماً فللمتخاذلينَ الذلةُ والعار وللمقاوِمين المجد والفخار، والعاقبةُ للمتّقينَ الأخيار...