19.44°القدس
19.2°رام الله
18.3°الخليل
24.96°غزة
19.44° القدس
رام الله19.2°
الخليل18.3°
غزة24.96°
الإثنين 30 سبتمبر 2024
4.99جنيه إسترليني
5.27دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.17يورو
3.73دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.99
دينار أردني5.27
جنيه مصري0.08
يورو4.17
دولار أمريكي3.73

كَثيرون حول العِلم.. قليلون حول الأدَب

533
533
خولة مقراني

إنّ تزاوج الأدَب والعِلم كتزاوج الروح بالجسد، الجسد الذي لا تدبّ فيها المشاعر ولا يسمو فيه الوجدان إلا بعد أن تدب الروح فيه، فالأدب هو الروح التي عندما تسكن جسد العالِم تطلق فيه مشاعره ووجدانه وتهذّب إفرازاته الفكرية الإبداعية. وعندما يتزاوج الجسد والروح لا ينظر أحد للجسد بقدر ما ينظر إلى البصمات الأخلاقيّة على وجه العموم. وكذلك الحال عندما يتزاوج العلم والأدب، فلا أحد ينظر إلى المنتَج العلمي بقدر ما ينظر إلى أدبِ العالم وأخلاقه، فمهما كان عِلم المرءِ منّا لن يعني شيئًا إن تبعهُ سوء الخُلق. ولذلك فكما تُجمّل الروح الجسد، فكذلك يجمل الأدب العلم فيجعله حلو المظهر والمذاق، طيّب الأثر، أينما حلّ سكن وأثمر.

تلك الأخلاق الطيّبة وصفاء النّفس وصِدق البذل والتواضع في سبيل العِلم والتعلّم كلّها مفردات تُضيف إلى عالمنا الإنساني نكهةً ومذاقًا غير مسبوق نستمتع به أيّما استمتاع. وهناك الكثيرون من أهل العلم من تزاوج لديهم العِلم والأدب مما آثروا الأخلاق قبل العلم وكان لهم إبداعات بقيت بين جوانح القارئ والمثقف العربي كوريقات حانية بين الضلوع تحمي القلب من جفاف الحياة. يقول أحد العارفين: "طلبت الأدب ثلاثين سنةً، وطلبت العلم عشرين سنةً، وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم"، فالأدب والأخلاق قارورة من الجمال تصون العِلم وتُهذّبه ليتوّقه البشر.

والله عزّ وجلّ ضربَ لنا مثلاً من أروعِ الأمثال في طلب العلم، وهو ما ورد في قصّة سيّدنا موسى والخَضِر، وقد كانت بداية القصّة فيما رُوي عن الرّسول -صلى الله عليه وسلّم-في قوله: "قَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فقال: أنا أَعلَمُ. قال: فَعَتَبَ اللّه عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ؛ فَأَوْحَى اللّه إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ". إنّ النّفس البشريّة قد جُبلت على الكِبر والاستعلاء على من هم دونها، تكرهُ أن تكون مُعلّقةً أسفل صيغة تفضيلٍ، فلو وُجّه هذا الخطاب لأيّ شخصٍ منّا لوجد في نفسه ضيقًا واستياءً... وهي الطبيعةُ البشريّة!

على خلافِ أنبياء الله –عزّ وجلّ-، فالمتأمّل لتصرّفات سيّدنا موسى في هذا الموقف، سيلحظ أنّه عليه السّلام لم يمتعض لهذا العتاب، رغم أنّ خطأه لم يكن مقصودًا، بل كان ظنًّا منهُ أنّه الصّواب، بناءً على ميزاتٍ وخصائص ارتبطت به، لم يضق صدره، لم يجد في نفسه كِبرًا أو استعلاءً بل قال فيما جاء في قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا"، فيها توقٌ عظيمٌ لملاقات سيّدنا الخَضِر، للتزوّد من علمه، فيها تصميمٌ للبلوغ (لا أبْرحُ حَتَّى أَبْلُغَ)، مهما تكُن المشقّة، ومهما يكُن الزمن الذي سينفقه للوصول، وهو ما عبّر عنه عز وجلّ بقوله (أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)، وهذا لا يكون إلاّ من مُحِبّ لطلبِ العلمِ، راغبٍ فيه.

رغم أنّه في مقام النُبوّة لا يعدله مقام آخر إلا أن يكون نبيًا مثله، رغم أنّه كليم الله الذي لم ينل هذا الشّرف أحدٌ سواه، المُلقاة عليه محبته، والمصنوع على عينيه، والمُصطفى لنفسه لم يشعر أنها إهانة أن يتعلم من غيره. فما هكذا يُحسب ميزان التّعلم، وما هكذا يُدرك العلم، والأعلم ليس بالضرورة الأفضل، فالأمور لا تُحسب في مجال واحدٍ وإنما تؤخذ جملة، الخَضِر أعلم من موسى عليه السلام في بواطن أشياء التي علّمه الله إياها بقدرٍ معلوم لحكمةٍ أرادها، ولكن موسى عليه السلام أفضل من الخَضِر جملةً لمقام نبوّته، ثمّ إنّ سيّدنا موسى حين عاتبهُ الله، لم يأمره بالذّهاب للتعلم من الخَضِر وإنّما طلب هذا الأمر بنفسه: إنّه التواضع لطلبِ العلم، تواضعُ النُّبلاء!

فلا تتحرج في أن تتعلم ممن هو دونك، فلعلّه أبرعُ وأفضلُ منك في مجالٍ أنت تجهله أو تلمُّ بالقليل فيه فقط، واقتدِ بسيّدنا موسى عليه السلام، وكذا انظُر وهو النبيّ كيف تأدّب في سؤال الخَضِر، فاستفهم منه ولم يأمره: "هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ"، فيه أدبٌ لائقٌ بالأنبياء، فيه استعطافٌ لمعلّمه في أدبٍ جمٍّ أنْ يُعلِّمه ممَّا أنعَم اللهُ عليه ليتعلَّمَ منه.

الحقيقةُ أنّنا نميلُ دائمًا لتعظيم أنفسنا أو بمعنى أدقّ: نرى أنفسنا الأمهر في كلّ شيء، سواءً في مجالِ تخصّصنا أو في مجالاتٍ أخرى، فنصدّ عن الآخر إن هو وجّهنا وأرشدنا، نظنُّ أنّنا أعلمُ من الفقيه والطّبيب والمُهندس... وكأنّ الله قد وضع كلّ علمه فينا، والحقيقة أنّ ما نعلمه ما هو إلاّ نقرة طير من ماء بحر، كما جاء عن النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام-: "...فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْر، فَقَالَ الْخَضِر: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ..."، لا ضير في تمايُزنا في العلم فهو أمرٌ نسبيّ يختلف من شخصٍ لآخر ومن مجال لآخر، ما دام هناك تكامل وتعاون وملء للثغرات.

ثمّ إنّ الثقة بالنّفس وتقديرُ الذات شيء والاعتقاد بأنّنا لا يُشق لنا غبار شيء آخر، فإن كان موسى عليه السلام بمقامه وبما فضّله الله به عن غيره من البشر، يُعاتبه ربّه، فحتمًا نحنُ كبشرٍ عاديّين هناك مَن يفْضُلنا في أشياء، فانظر للخَضِر لما قال له موسى -عليه السلام-: جئتُ أتعلَّمُ منك، قال: أما يكفيك أنّ الله كتب لكَ التوراة بيده! وفي النهاية لا أحد منّا فوق العِلم والتعلّم.

وسيّدنا موسى هُنا لم يكن يطلبُ شيئًا سوى شربة قليلة من بحر علم الله الذي يغترفُ منهُ كلُّ باحثٍ مُتعطّش، لكنّه تعلّم أدب طلبِ العلم قبل العلم ذاته، تعلّم: التّواضُع، الصّبر وعدم استعجال الأمور والاندفاع، تعلّم الطّاعة، الفهم والوعي مِن المتعلِّم لِمَا يتعلَّمه، لأن الفهم يُعِين المتعلِّم على المواصلة في طلب العلم، تعلّم أنّ عليه محاولة الاستنباط، فعلى المُتعلِّم أن لا يعتمد على مُعَلِّمه في كلِّ شيءٍ؛ فالمعلِّم يُعلِّمُ ويترك شيئًا ليستنبطه المتعلِّم؛ وبذلك يستطيع المُعلِّم قياس مدى انتباه وتركيز ونباهة المتعلِّم.

والحقيقة أنّ هذا ما هو إلاّ قليل القليل من الأدب الذي نحتاجه في عصرٍ كالذي نحنُ فيه، فطلبة العِلم اليوم لا يملكون من الأخلاق إلاّ ما ندر، في حين كان لزامًا أن يكونوا أكثر النّاس أدبًا وأحسنهم خُلقًا، قال الخطيبُ البغدادي: "الواجب أن يكون طلبةُ الحديث أكملَ الناس أدبًا، وأشد الخَلْق تواضعًا، وأعظمهم نزاهةً وتديُّنًا، وأقلَّهم طيشًا وغضبًا؛ لدوام قرعِ أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآدابه، وسيرة السلف الأخيار مِن أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدِّثين، ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها، ويَصدِفوا (يبتعدوا) عن أرذلِها وأدونها"، فأين نحنُ من كلّ هذا؟