19.44°القدس
19.2°رام الله
18.3°الخليل
24.96°غزة
19.44° القدس
رام الله19.2°
الخليل18.3°
غزة24.96°
الإثنين 30 سبتمبر 2024
4.99جنيه إسترليني
5.27دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.17يورو
3.73دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.99
دينار أردني5.27
جنيه مصري0.08
يورو4.17
دولار أمريكي3.73

مُرافعة امرأة غاضبة

533 (2)
533 (2)
خولة مقراني

عن أيّ حريّةٍ يتحدّثون؟ كان هذا السّؤال هو آخر ما ختمتُ به مقالي "قفصُ العذارى"، هذا السؤال الذي وجدتُني عالقة فيه دون أن أجد له إجابة، في الوقت الذي صار فيه مصطلح (الحريّة) بحدّ ذاته شعارًا يرفعُه كلّ من أراد خلع رداء الدّين والتحرّر من انتمائه العقائدي، هذا الانتماء الذي قد يجعله يبدو متخلّفًا في نظر الآخر (الغرب)، ومطلبًا تَنشُده الفئاتُ الشابّة، والفتيات على وجه الخصوص، بعد خِبرة الحريّة في الفضاءات الغربيّة، التي عبرتها جموعٌ غفيرة من المسلمين والمسلمات لسببٍ أو لآخر، هذه الفضاءات التي تحفل بأشكال من الحريّة يأتي بعضُها على كلّ شيء.

وحين يتعلّق الأمر بالنّساء المسلمات فإنّ الحريّة تحملُ لهنّ تحت مسمّى الحداثة من الإغراءات والمخاطر ما لم تحمله لهنّ مواطنهنّ الأصليّة التي وفدن منها، تلك الحداثة التي تعرض المرأة لحمًا شهيًّا يُغري العيون الجائعة، لكن وبالرّغم من ذلك في نهاية المطاف لا يتردّد بعضهنّ في الإعلان عن خروجهنّ من قُنية الإيمان.

هذه الفرقة من النسويّات عندما يصرّحن أنهنّ يُردن (الحريّة) فهذا يعني أنهنّ على ميعادٍ مع أشدّ أشكال الحداثة عنفوانًا وحدّةً وتصلّبًا، فتمثّل عند البعض منهنّ الأخذ بعلمانيّة صريحة، بينما يعني في حالاتٍ أخرى رفض الأساس اللاهوتي الذي يقوم عليه الدّين نفسه، الأساس الذي لا يكون أحد مسلمًا على وجه الحقيقة دون الإقرار به.

هُنا يجدرُ بنا الغوص في أعماق عالم الأنوثة، في تعاملها مع أناها وتعاملها مع الآخر، سواء أكان هذا الآخر الرجل أو الثقافة الأخرى، بهذا الشكل فإنّنا نجدُ أنفسنا أمام توتر وارتجاج يمكن أن توحي به واو العلاقة بين المرأة والحريّة. فهي من ناحية تناضل من أجل الانفلات من الهيمنة الذكورية والممارسات القمعيّة التي ترجع إلى التفسيرات (الأبويّة) المغلوطة للإسلام، والتحرر من اللامساواة التي تفرضها العادات والتقاليد والتي غالبًا ما يتم إسنادها إلى الدين أو السلطة أو التاريخ، ومن ناحية أخرى تريد أن تبرز جمالها ومفاتنها، أن تثبت سلطتها الهائلة، التي تتمثل في قدرتها على الإغراء والجذب من بعيد، ولكن لا سبيل لإثبات هذا إلا بخلع رداء الدّين واعتلاء منصّة الحريّة والتي تتمثّل عندهنّ في التعرّي طبعًا!

تلك الحريّة التي تعني الرّجوع أميالاً إلى الخلف إلى عصر العبوديّة، تلك الحريّة التي تعني تمزيق الحجاب طلبًا للعُري، تلك الحريّة التي تعني مساءلة مقدّساتنا الدينيّة والتشكيك في آيِ القرآن والدّخول في حالة "سجالٍ" معها، تلك الحريّة التي تأذن لهنّ بقول ما لا يمكن لهنّ قوله لو أنّهنّ كنّ أو بقين داخل السّرب، تلك الحريّة التي تمنح لأيّ شخصٍ الحقّ في أن يفعل أيّ شيء ما دام لا يُخالف القانون ولا يتعدّى على حريّة غيره، أي أنّ لأيّ شخص الحق في شرب الخمر مع أنّه مضرٌّ بالصحّة والمال، أي أنّ لأيّ فتاة الحقّ في ممارسة الزنى بالاتفاق، ومن حقّ أيّ فتاة ممارسة السحاق بالاتفاق، ومن حقّ أي فتى وفتى ممارسة اللواط بالاتفاق أيضًا، تلك الحريّة التي تقتل الفكر وتجعل من الإنسان مجرّد حيوان دون هويّة، مجرّد مسخٍ يركضُ خلف أهوائه وغرائزه الشهوانيّة.. تبًّا، بأيّ حريّة تندّدون؟

هذه الحريّة التي لا تعني سوى سربًا من الأرواحِ التي سُلبت منّا، وإيمانًا اجتثّ من قلوبٍ عانقناها وأحببناها، فتقاسمنا معها الابتسامات كما العبرات، شاركناها تفاصيل حياتنا، منحناها أجزاءً منّا، مساحاتٍ من قلوبنا ولحظاتٍ من أعمارِنا عشناها معًا، ولحظاتٍ أخرى من الأسى والألم على فُقدانها سنقدّمها قربانًا في سبيل انتظار رجوعها، صارت الحريّة مصطلحًا مقيتًا وخنجرًا خفيًّا يستلُّ منّا النّاس الواحد تلو الآخر.. فصرنا نُصبح ونمسي ونحنُ نُعانقُ قلوبنا خوفًا من أن تطالها هي الأخرى يدُ الحداثة.

إنّي أتساءل: ما الذنبُ الذي ارتكبته أمٌّ (إن أجحفنا بحقّ الأب المسكين واعتبرناه شخصًا قاسٍ بطبعه وأنّ ممارساته الذكوريّة القمعيّة سببٌ في تكوين عقل وجداني مأزوم، وهذا طبعًا ليس بصحيحٍ على وجه العموم) شقت وتعبت في تربية أبنائها، في غرس القيم والمبادئ السّليمة فيهم، ومنحتهم مع كلّ ذلك من الحبّ والعطف والأمان، منحتهم ثقتها، ومساحةً كافية ليمارسوا ذواتهم بكلّ حريّة، ثمّ على غفلةٍ منها تأتي رياحُ الحداثة وتهدمُ في لحظةٍ كلّ ما شيّدته خلال سنين؟

أتعلم، ليس ذنبُ الأمّ ولا ذنب الأب.. بل هو ذنبُنا جميعًا، لأنّك حين تتأمّل المشهد ستجده أكثر عُمقًا وأبعد غورًا وأشدّ كآبةً وبؤسًا: صور النّساء المستغلاّت، عبثُ الرّجال بالنّساء، الرّجال الذين ينقلون لبراءة العذارى الحالمات أمراضهنّ النفسيّة ومجتمع القرية الذي لا يرى للفتياتِ مستقبلاً بعيدًا عن تلك الرقعة البسيطة، والمجتمع الذي يدفعُ بالفتيات إلى قارعة الطّريق ويبصقون عليهنّ وينعتونهنّ بأنكر المسمّيات ليتحمّلنها ما دُمن على قيد الحياة، في حين لا أحد يتعرّض للرّجل مهما ارتكب وفجر، تبقى الأنثى في هكذا أوساط وصمة العار الوحيدة... كلّ هذا باسم الدّين، بأيّ دينٍ تدينون؟!

بالرّغم من كلّ ما حصل وما سيحصل، بالرّغم من كلّ ما فقدناه من أرواحٍ، إلاّ أنّهُ ليس علينا أن نخشى من حدّة ألسنةٍ سليطةٍ تطالُ ديننا، ولا من هجومات حول مسائل دقيقة فيه ممّا هو ذو صلة بالرجل أو الدّين أو النبي... لأنّها في حقيقتها ما هي إلاّ واجهة تخفي خلفها حالة يتعيّن النظر إليها والتدقيق فيها، حالة عقلٍ وجداني فالت من عقاله لا من عقل معرفي كما يدّعون. وما من محكمة بشريّة يمكنها الأخذ بأقوال هكذا عقليّاتٍ مأزومة بغير مناقشة وتداول عقلي معرفي.

هي مرافعتي قد قدّمتها، أحببنا ذلك أم كرهنا، نحنُ مسؤولون بطريقة مباشرة عن كلّ ما يتعرّضُ له دينُنا من تُهم توجّهها له هذه النسويّات، مسؤولون عن كلّ نفسٍ أفلتناها لتغرق في مستنقع الحداثة باسم الحريّة، لذا كان لزامًا علينا أن نغيّر أنفسنا ونتوقّف عن نسبِ أفعالنا المقيتة، وتخلّفنا وجهلنا وأمراضنا النفسيّة، وعنصريّتنا، للدّين. وأن نسعى للوصول إلى تلك المجتمعات المعتمة وفي أيدينا قبسٌ من نور الحقّ نمنحهم إياه ليستدلّوا به، فيستعيد مصطلح الحريّة معناه الحقيقي الذي جاء به الدّين فحرّر المرأة من عبوديّة الجاهليّة، وحرّر به البشر من غرائزهم الشهوانيّة الحيوانيّة.