19.44°القدس
19.2°رام الله
18.3°الخليل
24.96°غزة
19.44° القدس
رام الله19.2°
الخليل18.3°
غزة24.96°
الإثنين 30 سبتمبر 2024
4.99جنيه إسترليني
5.27دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.17يورو
3.73دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.99
دينار أردني5.27
جنيه مصري0.08
يورو4.17
دولار أمريكي3.73

محاولة عيش.. ما معنى أن تولد في دولة عربية؟

b3f136fc-908c-4e58-83ec-e5df2956c058
b3f136fc-908c-4e58-83ec-e5df2956c058
عثمان سحبان

"لا أحد يُولد كما يريد أن يولد، إنهم يلدونه كما يريدون هم، وحين يجد نفسه قادراً على التفكير في وجوده يكونون قد حكموا عليه بالحياة التي عليه أن يقبلها أو يرفضها بوسائله الخاصة" محمد شكري. أن تُولد في دولة عربيةٍ، معناه أنك ستحمل أفكارًا غريبةً، تقاليد وعادات غير مَأْلوفةٍ وتتديّن بدين والديك، من لا يحمل دينك سيقُولون لك أنه كافر. ستتعلم تعليماً تقليدياً وتُعاني من الحِفظ كالآت دون أن يعود عليك هذا بالنّفع، لأنك ستنساه بعد الامتحانات مباشرة. ستحلم كثيراً لأن الجزء ألأكبر من حياتك مبنيّ على الأحلام، ففيها تُعوّض واقعك السيء.

ستشاهد الحروب والفتن، وعندما تسأل عن السبب يُقال لك إنها مؤامرة من الخارج! ستكره إسرائيل وتدعو عليها بالدمار والشّتات، وستزداد هي تقدما! ستكبر وتحاول الاستمتاع بحياتك وفعل ما يحلو لك، لكن سيتم منعك بدعوى أن هذا عيب أو حرام! ستدرس وتتعلم وتنجح وعندما تريد العمل لن تجده، وستحتاج إلى الواسطة أو دفع الرشوة من أجل الحصول على وظيفة! ستعاني البطالة، وربما تضطر للهجرة بحثاً عن العمل أو هرباً من الحرب. وفي النهاية ستجد نفسك بلغت الأربعين، ربما تكون قد كونت أسرة صغيرة وتعيش مع والديك، أو لازلت تعيش على الأمل في الأفضل، وتصلّي وتطلب الله أن يرزُقك ما هو خير، أو ربما تكون قد مُت.

طُفولة يائِسة

إن العادات الّتي نكتسبها في مرحلة الطفولة المبكرة هي التي تُحدد ما إذا كنّا سنعيش حياة الفقر أو الثّراء، أو الإنتاجية أو الخمول، أو الخير أو الشّر. وُلدت في التِّسعينيات بأحد الدَّواوير بقُرى المغرب العميق، تطلقت أُمّي ذات الست عشرة سنة بعد ولادتي مباشرة. تزوجت بعد ذلك، تكفل جدي برعايتي، رغم كونه إنساناً ذو طابع حاد وجِدِّي، إلا أنه بذل كل ما في وسعه من أجل تعليمي وتربيتي. درستُ بإحدى المدراس العمومية الموجودة في قريتي، رغم أن عددنا في القسم الواحد كان يتجاوز المستويين بسبب قلة الأقسام، إلا أنني كنتُ تلميذًا مجتهداً، وكنت أكره مادة اللغة الفرنسية، لأن الأساتذة كانوا يلقنوننا هذه المادة بطريقة سيّئة ويحملوننا مسؤولية نقاطنا المتدنية.   

اعتدت مساعدة جَدّي في الفلاحة ورعي الاغنام، كنت أمضي وقت فراغي في اللعب بالتراب، وبعض الألعاب التي اصنعها بنفسي. عانيت كثيراً في طفولتي، ما جعلني أكره البادية أو "ألْعُرُوبِيَّة" كما نُسميها هنا في المغرب. لذلك كنت دائم التطلع إلى الذهاب إلى المدينة التي كنت لا أزورها إلا قليلاً، الشيء الذي سيتحقق بعد حصولي على الشهادة الابتدائية وانتقالي إلى أحد المدن من أجل اكمال دراستي الإعدادية والثانوية.

خَيبة أمل

"ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﻨﻐﻤﺲ ﻓﻲ ﺩﻡ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻻ ﻳﺤﻖّ ﻟﻪ ﺃﻥ يتكلم عن الجرح" محمد شكري. مرحلة الإعدادي والثانوي لم تكن كما تمنيت أن أعيشها، والمدينة التي رسمتها سلفاً في أحلامي لم أجدها. كانت "فيلاج" أو شبه مدينة لازالت تحتفظ بالطّابع القروي. إن البادية تلاحقني، الأجمل أنها على شاطئ البحر، اكتريت بيتاً صغيرًا رفقة أحد أصدقاء الدراسة، وكطِفل في الثانية عشرة من عُمره، من المفترض أن أمضي هذه الفترة من حياتي في الدراسة واللهو والمرح والسفر والمغامرات.

لكن على العكس تحملت المسؤولية، وكان عليّ تدبير أموري، إذ لم تكن تكفيني تلك الدراهم القليلة التي يرسلونها لي. ملابسي رثّة وقديمة، شعري مجعد وغير مرتب، هكذا كنت، لم تكن لي أم أو أب يقتنيان لي الملابس، كنت عشوائياً ما جعلني محط سُخرية ضمن أقراني. لم يكن لديّ خيار غير الجمع بين الدراسة والعمل، عمِلتُ وأنا صغير في مهن عدة، إلى أن وجدت العمل الذي ارتحت فيه، وكان بالميناء حيث عملت حمالاً لصناديق السمك، وكنت أجني فيه مالًا يكفيني للعيش. سنواتي الأولى في الدراسة لم تكن كما أردت، عانيت فيها كثيراً، إلى أن نضجت قليلاً ووجدت مكاني ضمن بعض الفقراء المسحوقين مثل

الكتاب أنقَدَنِي من الضّياع

مرحلة المراهقة كانت صاخبة جداً، خصوصاً بعد انتقالي للكراء بمنزل يشبه منازل الدعارة، يأتي إليه الرجال للاستمتاع وقضاء بعض الوقت مع صديقاتهم. لكن كأي مراهق بلا رقابة أهله، انغمست في هذا الجو، فتعاطيت المخدرات بأنواعها وأدمنت السّهر، فأثر ذلك على تحصيلي الدراسي، ما جعلني اُكرر السنة الثانية من الثانوي، وغيرت فيها توجهي من العلوم إلى مسلك الآداب والعلوم الانسانية، وكان اختياراً مُوفقاً، إذ وجدت فيه منفذاً ممّا كنت أُعانيه من فراغ وضياع، وجدت لنفسي هواية جديدة وهي قراءة الكتب.

كانت رواية "الخبز الحافي" للكاتب محمد شكري أول كتاب اقرأه. وجدت فيها نفسي، وجعلتني أنغمس في عالم الكتب، خصوصاً كتب الفلسفة والتاريخ، فبدأت في بناء شخصيتي عبر مسار مختلف. تحسنت نقاطي وأصبحت تلميذاً مجتهداً، ابتعدت عن الإدمان والعمل في الميناء، وانضممت إلى إحدى الجمعيات التي أصبحت أُقدم فيها ساعات إضافية لتلاميذ الابتدائي، حصلت على شهادة الباكالوريا بامتياز وكنت الثالث على مستوى جهتي.

بصيص أمل ظهر ثم اختفى!

"‏لا ينبغي لنا أن نثقَ كَثيرًا في السَّعادة، ‏قد تكون مثل عصفور جميل يحطّ على حافّة شرفتنا، لا نكاد نقترب منهُ حتى يطير." محمد شكريي. إن احلامنا تتغيّر مع مرور الوقت. في الطفولة نحلم بشيء، لا نكاد نحصل عليه حتى يُصبح لنا حلم آخر. حلمت بالمدينة والأضواء والحرية، حلمت بالعيش الكريم، كرهت الفقر والمعاناة. وجدت بريق أمل في الدراسة، فكرت أن التعليم قد يضمن لي عيشاً كريماً، خصوصاً بعد أن تحسن مستواي. انتقلت إلى الجامعة اخترت تخصص التاريخ، وجدت أن نظام التعليم الجامعي يختلف كثيراً عما عهدناه في الثانوي، والتاريخ الذي كنت أقرأه في الكتب وأحببته ليس هو التاريخ الذي ندرس.

وفي غياب التوجيه، مرت سنة بيضاء دون أية نتائج، فكرت في العمل، اجتزت مباراة الدرك الملكي رغم أنني لا أُتقن اللغة الفرنسية جيّداً، فهي شرط ضروري للعمل في المغرب وهذا من تبعات الاستعمار. نجحتُ في الكتابي وفشلت في المقابلة، عندها أصبح لي همّ جديد وهو البحث عن عمل خصوصاً وأنني لا أمتلك مصاريف الدراسة، كنت استغل العطلة الصيفية من أجل العمل وجني بعض المال. قررت تغيير الجامعة والتحقت بكلية الحقوق، كان عامي الأول جيداً وموفّقا، لكن في عامي الثاني وجدت مشكلاً آخر، فكلما ازداد عمرك ازدادت مصاريف حياتك، لم أعد أجد مصاريف الكراء والأكل، فلم يعد لي خيار سوى التخلي عن الدراسة والبحث عن عمل.

هكذا هي الحياة.. هكذا اكتشفت معنىً العيش في دولة عربية.. معناه أن المدارس والجامعات، تم إعدادها لاحتواء الشباب بعض الوقت، حتى لا يُشكّلوا ضغطاً على سوق الشغل الذي لا وجود له أصلاً. معناه، أنه من الوارد جداً، أن تضطر في وقت من الأوقات إلى التخلي عن أسمى أحلامك، معناه أنك إذا أردت أن تتزوج فعليك أن تكدح مقدار كدح الإنسان الغربي لتأسيس شركة متعددة الجنسيات.. لا كرامة، لا تحفيزات ولا مساعدات لبناء مستقبلك.. لا وجود لأبسط شروط التعلم والنجاح والعيش الكريم. نحن نرضى بفشلنا، فقط لأنه لا قوة لنا على معايشة فشل آخر وهكذا هي الحياة. قد نضطر أحياناً إلى التخلي عن أهم طموحاتنا أمام قلة الحيلة، الآن لا مهرب لي من هذه الحياة القاسية سوى هذه التدوينات التي أكتبها، فالكتابة ليست نزهة بل مسيرة احتجاج، كما قال كاتبنا محمد شكري.