يحزنني ويحزن الكثيرين من المشتغلين بالبحث العلمي أن نجد مراكز البحوث والمدارس والجامعات في الوطن العربي لا تساير التطورات العلمية الرئيسية التي تحدث في أوروبا والولايات المتحدة، إن مثل هذه الاكتشافات هي ثمرة ديناميكية المجتمعات الصناعية المتقدمة، ولذلك يبدو لي أنه إلى أن تتحول مجتمعاتنا من مجتمعات متخلفة صناعيا إلى متقدمة فليس من المتصور أن تبدأ مثل هذه الاكتشافات عندنا.
ولكن يكون من الضروري على الأقل أن نتابعها، وأن نترجم المؤلفات الأساسية التي تصدر في الخارج منها، وأن تعقد الندوات التعليمية في مراكز البحوث والجامعات لمناقشتها وإلقاء الأضواء على خفاياها. وبهذا نمهد للزمن الآتي حيث نستطيع أن نضيف ونطور ونكون بذلك من المساهمين في حركة البحث الدولية. هل هذا يحدث؟ لا أعتقد أن شيئا من هذا يحدث في أي جزء من عالمنا العربي. وسوف أضرب مثالين لتطورين أساسيين في مجال علوم الرياضيات وهو المجال الذي أعرفه جيدا.
نظرية الكارثة
منذ أكثر من عام وأنا أسأل مراكز البحوث في المغرب إن كان هناك اهتمام بما يسمى في أوروبا "نظرية الكارثة Catastrophe Theory " وهذه النظرية الجديدة هي ثمرة السنوات الماضية منذ أن ظهر أول كتاب عنها عام ١٩٧٢ للعالمي الرياضي الفرنسي رينيه توم. وأهمية هذه النظرية أن تطبيقاتها تخرج عن الحدود التقليدية للتطبيقات الرياضية في العلوم الطبيعية أو الهندسية.. إلى تطبيقات في العلوم البيولوجية والطبية والعلوم الاجتماعية، بل في بحوث الحرب والسلام. ولهذا السبب أثيرت بين العلماء في أوروبا والولايات المتحدة. وحتى اليوم ما زال غبار هذه المعارك الفكرية عالقا في أجواء البحث العلمي هناك، لكننا لا ندري، أو بمعنى أدق لا يدري المختصون عندنا شيئا عن ذلك، وربما لم يسمعوا أصلا بهذه النظرية ذاتها.
ومن حق القارئ - مادام الموضوع قد أثير - أن أقول كلمة عن هذه النظرية هنا حتى نعرف شيئا عن أهميتها. لقد تطورت العلوم الرياضية ابتداء من نيوتن حتى النسبية العامة في ارتباط وثيق بالعلوم الفيزيائية والفلكية أساسا. وهذه الحقيقة طبعت الاكتشافات الرياضية في الغالب الأعم بطابع خاص.. هو قدرتها على وصف التغيرات البطيئة والمتصلة وتحليلها مثل حركة الكواكب والنجوم.. إلخ. لكن الظواهر الطبيعية التي تحدث كلها على هذا المنوال. فهناك الظواهر الطبيعية التي تحدث فجأة كغليان الماء وذوبان الثلوج وحدوث الزلازل.. إلخ. وفي العلوم البيولوجية نجد هذا السلوك المفاجئ كظاهرة أساسية في كثير من المواقف، ومثال ذلك الخلية التي يمضي إيقاع تكاثرها بشكل عادي ثم فجأة تتضاعف وتتضاعف بشكل سرطاني.
فإذا انتقلنا إلى العلوم الاجتماعية والسياسية فسوف نجد هذه التحولات الكيفية التي تحدث بشكل مفاجئ ظاهرة ملموسة كانهيار البورصة واندلاع الحروب وقيام الثورة.. إلخ. وفي حياتنا العادية نتحدث عن القشة التي قسمت ظهر البعير دون أن نستطيع أن نصف هذه الظاهرة علميا. إن التقنيات الرياضية المتوفرة لم تكن قادرة على وصف هذه التحولات الكيفية المفاجئة فضلا عن تحليلها لأسباب عديدة منها كما أسلفنا أن العلوم الرياضية نشأت في حضن العلوم الطبيعية وتأثرت اكتشافاتها إلى حد كبير بهذه الحقيقة. ومنها أن مثل هذه التحولات المفاجئة في حاجة إلى رمزية رياضية غير الرمزية التي تعودنا عليها.
لماذا لا نهتم؟
وكما يقول الأوربيون المتخصصون، في البدء كان رينيه توم، العالم الرياضي الفرنسي العبقري الذي أصدر أول كتاب عام ١٩٧٢ باسم "الاستقرار البنيوي والتكوين التشكيلي" وكان حلمه الأساسي هو أن يطوع العلوم البيولوجية رياضيا، أي يبني نماذج رياضية تصف الظواهر البيولوجية الأساسية وتقوم بتحليلها. وقد استخدم رينيه توم نظريات الرياضي الفرنسي الأشهر يوانكاريه عن الأنظمة الديناميكية، لكن كتابه كان مع ذلك مثالا في المفاهيم والتصورات الجديدة والبناء الفكري الفذ.
ومع أن رينيه توم لم يكن مشغولا بالعلوم الاجتماعية أو السياسية، فقد كان طبيعيا أن يندفع كثير من علماء الاجتماع والسياسة نحو هذه الفرصة الذهبية للاستفادة منها. لقد سمى رينيه توم هذه التغيرات المفاجئة بالكوارث لأن كلمة «كارثة» في اللغة الفرنسية هي القادرة في رأيه على إعطاء هذا الشعور بالتغير المفاجئ الدراماتيكي. لكن بعض إيحاءات هذه الكلمة في كثير من التطبيقات مضلل، ولا حيلة لنا في هذا. فمنذ تسمية رينيه توم أصبح الموضوع معروفا دوليا باسم «نظرية الكارثة». والكوارث الأولية والكوارث العامة!
ولا شك أن لمثل هذه النظرية آثارا هامة على تطور علم المنطق ولا سيما الرياضيات، وهو الذي انحصر معظمه حتى اليوم في المنطق الأرسطالي، ويحق لنا أن نتوقع استيعابا رياضيا جديدا للمنطق الجدلي الذي بدأ على يد هيجل. والغريب أن معظم تطبيقات نظرية الكارثة (والتي لا تثير خلافا) هي في العلوم الطبيعية والهندسية وليست في العلوم الاجتماعية أو البيولوجية. وكثيرون يعتقدون أن هذا هو المتوقع إلى مستقبل قريب، وأن الاستخدام الناجع والواسع لهذه النظرية في العلوم البيولوجية هو أمر يتعلق بالمستقبل المتوسط. وبعد هذا، وبعد هذا فقط يمكن أن نتوقع التطبيقات الناجحة في العلوم الاجتماعية.
وليس هذا هو رأي الجميع على أي حال، فيكفي أن نشير إلى محاولة علماء رومانيا بناء نموذج رياضي باستخدام نظرية الكارثة لوصف مشكلة الصراع المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي من ناحية، وبين الدول الفقيرة والدول الغنية من ناحية أخرى. فهل نحن مهتمون في الوطن العربي بهذا التطور العلمي الكبير بتطبيقاته المترامية؟ في حدود علمي لا أعرف مركزا بحثيا في العالم العربي مهتما بدراسة وتوسيع دائرة النقاش حوله في المجالات المختلفة. وسوف يسعدني جدا أن يثبت أنني خاطئة!
أما المثال الثاني على النوم الذي تغط فيه مراكز بحوثنا فيتعلق بمجال أكثر تخصصا لكنه لا يقل أهمية. وهو محاولة للنفاذ إلى أسس العلوم الرياضية ويعرف باسم «التحليل غير القياسي». وقد بدأ هذا التطور في الولايات المتحدة أيضا منذ حوالي ثلاثين سنة على يد رياضي أمريكي يدعى ابراهام روبنسون، لكنه سرعان ما أخذ أبعادا جديدة وعقدت من أجله ندوات عديدة في أوروبا والولايات المتحدة. ولست أنوي أن أرهق القارئ بشرح معنى هذا التحليل غير القياسي، لكن يكفي أن أقول أن هذا التطور يثير قضايا فلسفية كثيرة فضلا عن أنه يقدم براهين بسيطة لنظريات رياضية سبق برهانها بأساليب معقدة تماما.
أزمة الاتصال الدائم
هذان إذن مثالان على تطورين أساسيين في العلوم الرياضية وقعا في السنوات العشر الأخيرة لا يجدان لهما صدى في الوطن العربي حتى اليوم في دوائر البحث العلمي. ولا بد أن تكون العلوم الأخرى حافلة بأمثلة من نفس النوع. والمشكلة ليست هي انعدام الباحث العربي المهتم، وإنما هي مشكلة توفر الاتصال الدائم بيننا وبين مراكز البحوث في الخارج، وتوفر الوقت الكافي للأكاديميين للانصراف لمثل هذا العمل الجليل بدلا من الجري وراء لقمة العيش فقط!
حكى لي دكتور متخصص في الهندسة التكنولوجية المعلوماتية أحد الأساتذة العاملين في مدارس المهندسين بالمغرب أنه عندما سافر في الصيف الماضي لحضور أحد المؤتمرات العلمية خارج البلاد دار بينه وبين أستاذ إنجليزي من نفس تخصصه نقاش استطرد إلى التعرض لما هو معروف الآن باسم "النماذج العالمية" التي استخدم فيها الكمبيوتر استخداما واسعا، وقال لي الأستاذ الدكتور المغربي أنه فوجئ بأن الأستاذ الإنجليزي على علم دقيق بالنماذج المختلفة التي استخدم الحاسوب فيها. فإلى متى يستمر هذا، ومتى نفيق من الكارثة العلمية التي نعيش في ظلالها؟