حاصل جمع الصفات التي أطلقت على الشعوب لمجرد أنها طرقت باب الحرية الموصد يكفي لأن يحذف عدة ألفيات من التاريخ ويعود به إلى الكهف، فالناس عندما يستيقظون من سباتهم السياسي الذي استغرقهم قروناً يصبحون غوغاء ودهماء ومندسين وقاطعي طريق وضالين ومغرر بهم إلى آخر هذه القائمة التي لا تقعد على الإطلاق . فالشيطنة هي السلاح الدائم الذي لا يقبل أي تطوير ضد من يرفضون أن الآخر ملاك ومعصوم، حدث هذا على امتداد الزمان، وإن بصور وتجليات تليق بكل زمن على حِدة، والحكاية باختصار هي ثنائية الاستبداد والحرية، فالاستبداد كما وصفه بشكل بالغ الدقة عبدالرحمن الكواكبي قبل أكثر من قرن له جذوره وبالتالي جذوعه وفروعه، وهو ليس يتيماً أو بلا نسب لأن من يدافعون عن استمراره ويحاولون تبريره من خلال التحايل على اسمه ومفاعيله إنما يدافعون عن مصالحهم، حتى لو كانوا من النخب، فالنخب ليست بلا نسب اجتماعي وثقافي، إنها تعبر عن فئات مجتمعية وبالتالي عن انتماءاتها الفرعية كما قال غرامشي في واحدة من أشهر الأطروحات الفكرية حول مفهوم المثقف وبالتحديد المثقف العضوي . إن توصيف الآخر الذي شبّ عن الطوق وبلغ الفطام عن الوصاية بكل نعوت الشر والسلبية أمر ليس مستغرباً، ومن يستغربه هو ذلك الذي قرأ التاريخ بعين واحدة فقط، فالصراع لم يهدأ منذ مربعه الأول في التاريخ بين واقع غاشم وحلم بتغييره، لكن الحلم عندما يكون أعزل ومجرد تفكير رغائبي يتحول إلى وهم وقد لا يصحو منه المصاب به إلا بعد فوات الأوان أو خراب البصرة كما يقول العرب . وفي واحدة من أقدم الحواريات الرمزية في التاريخ يقول المضطهد الذي سلبت حريته إن سلالة الجلادين لا تنتهي . فيرد عليه عبد تمرد على من أفقده حريته: وكذلك المتمردون، منهم أيضاً سلالة لا تنتهي . لكن الاستبداد في بواكير التاريخ لم يكن قد بلغ هذا الحد، بحيث أصبح له دهاقنة وفقهاء ضليعون في تبريره وتمريره من خلال تجميل صورته القبيحة . والتوصيف المتبادل بين السجين والسجّان لم يخرج يوماً عن قاموس الهجاء والتجريم لأن الحرب لها طرفان يتشبث كل منهما بخندقه وسلاحه . . هما السارق والمسروق لهذا علينا أن لا ننتظر من طاغية أن ينحني لشعبه ويعتذر إليه، حتى لو استخدم تلك الكلمة التي أصبحت في عصرنا خلاصة لكوميديا سياسية سوداء وهي: الآن فَهْمِت . فالفهم عندما يتعلق بمصائر البشر له أوان محدد، ويصبح عديم الجدوى إذا جاء بعد وقوع الفأس في الرأس، عندئذ تكون براقش قد جنت على نفسها وأبنائها وربما أحفادها . سهل أن يوصف الناس بالقطعان أو الدهماء أو الغوغائية وأخيراً بالمندسين، لكن كما قال قارئ عربي مجروح في سويداء القلب، كيف نفرق بين المُنْدس والمُنداس، في زمن أصبح فيه اللا معقول معقولاً واستدارت فيه المربعات، ومشى الناس على رؤوسهم حتى علت عيونهم على حواجبهم؟!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.