هم فلسطينيو الشتات أنفسهم، ولكن اللقب يختلف باختلاف العدسة التي ينظر إليهم بها، العدسة المحدبة، أو شديدة القعر، بناء على درجة العروبة والدين والاعتراف بالمعروف، علما بأن كلمة “مرتزقة” لم يتسم بها أي فلسطيني هاجر إلى أي من دول أمريكا أو أوروبا أو حتى آسيا.
قبل أن يتم تهجيرهم عامي 1948 و1967، كان الفلسطينيون ينعمون بوطن توسط الامبراطوريات العظيمة، وكان مركزا لتقاطع الثقافات والحضارات الكبيرة. الفلسطينيون “المرتزقة” خرجوا من وطنهم الذي كان أرضا شهدت تعاقب الحضارات والأمم، كالكنعانيين، والأنباط، والرومان، والبيزنطينيين، والخلافة الاسلامية، والصليبيين، والأيوبيين والعثمانيين، وقبل كل ذلك كانت أرضا مباركة احتضنت وجود الرسالات السماوية، وقبور أنبيائها الذين حملوا الأمانة والقيم، مثل سيدنا صالح (عكا)، وسيدنا يونس (الخليل)، وسيدنا يعقوب (الخليل)، وسيدنا يوسف (نابلس)، وسيدنا إبراهيم (الخليل)، وسيدنا لوط (الخليل)، وسيدنا زكريا (بيت لحم)، وسيدنا موسى (أريحا)، وسيدنا سليمان (القدس)، وسيدنا داوود (القدس)، وسيدنا عيسى وأمه مريم (بيت لحم).
شهدت فلسطين تطورا معماريا استثنائيا بحكم الحضارات التي تناوبت على أرضها دون انقطاع، وكانت المساجد والمدارس والمكتبات والقلاع والكنائس والمساجد والأسوار التي بنيت على أرضها من حجرها الطبيعي المميز شاهدا على ذلك.
كما وكانت فلسطين طريق تجارة عالمية منذ العصور القديمة، مما جعلها تشهد ازدهارا تجاريا كبيرا، ولا سيما أنها كانت جسر عبور لمرور التجارة، ومركزا حيويا للتبادل التجاري بين الحضارات؛ العراق شرقا، ومصر غربا، والحجاز واليمن جنوبا، وما يؤكد ذلك أن هاشم بن عبد مناف جد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مات في الطريق وهو عائد بتجارته من الشام إلى الحجاز، ودفن في مدينة غزة. ولقد ارتبطت التجارة في فلسطين ارتباطا وثيقا بقطاعي الانتاج الرئيسيين؛ الزراعة والصناعة.
كانت الزراعة ولا تزال هوية للأرض والشعب في فلسطين، ولا سيما أن فلسطين امتازت بخصوبة تربتها العالية، فكان العنب في الخليل، والبرتقال في يافا، والزيتون في الضفة استثنائيا ومقصدا للتجار العالميين. وقد اعتمدت التجارة اعتمادا كبيرا على الزراعة، فكانت صناعة الشمع، وخشب الزيتون، والصدف، والصابون، والحلويات، والطحينة، وطحن الحبوب، والسمسم، والزيوت النباتية، إلى جانب صناعة المنسوجات، والصياغة، ودبغ الجلود، والصباغة، والحدادة، والكلس، والمنسوجات، والزجاج، والنسيج، والسيراميك، والفخار، والحرف المعدنية، والخرز، وصناعة الأحذية، والتقشيش.
غادر الفلسطينيون تاريخهم، وأراضيهم، وأملاكهم، واستقرارهم، مجبرين لا مخيرين، غادروا جنتهم حاملين أحلامهم، وأوجاعهم، وعلمهم، بحثا عن فرص عمل تسد فزعهم من المستقبل والمجهول، مثقفين، لا عمال، أو مرتزقة، أو عالة على أي وطن سكبوا فيه خبراتهم وعلمهم وعملهم.
في الكويت، كان للفلسطينيين دور مهم في نهضة البلاد التعليمية بعد أن استقدمت الكويت نخبة مختارة من المعلمين الفلسطينيين من أجل تغيير المنهج القديم الذي اعتمد على نظام الكتاتيب، ووضع مناهج أكثر موضوعية وحداثة تتعدى القراءة والكتابة والحساب كما كان للفلسطينيين دورٌ بارزٌ في نهضة كثير من القطاعات الحكومية المهمة في الكويت، مثل الجيش والشرطة؛ إذ ينسب إليهم مهمة تنظيم جهاز الشرطة الحديث في الكويت، وتأسيس الجيش الكويتي، إضافة إلى دور الجالية الفلسطينية البارز في المجال الطبي والعمراني. وعلى الصعيد الدبلوماسي، نال الفلسطينيون الثقة لتمثيل الكويت في المحافل الدولية، فمثلاً، كان أول مندوب كويتي في الأمم المتحدة فلسطينيا (1).
وفي السعودية، كان الفلسطينيون في مقدمة من عمل في قطاع النفط السعودي، وقد طالب أول وزير نفط سعودي وهو عبد الله الطريقي بمنحهم الجنسية السعودية في أول اجتماع وزاري حضره في الرياض (2).
وفي قطر، كان الفلسطيني سعيد المسحال واحدا من أهم مؤسسي قطاع النفط القطري، وكان مستشارا لأمير قطر آنذاك.
أما في الإمارات، فالفلسطينيون من الجاليات المتميزة، حيث إن غالبية أبناء الجالية من المتعلمين والخبرات والكفاءات التي يُعتد بها. وقد لعب الفلسطينيون دورا كبيرا في بناء الدولة الإماراتية، حيث إن الذي وضع الدستور عام 1971 هو الفلسطيني عدي البيطار، والذي أسس القضاء في إمارة دبي هو تيسير النابلسي، والذي أسس جريدة البيان بتكليف من آل مكتوم هو إبراهيم سكجها، والذي أسس تلفزيون دبي هو رياض الشعيبي، كما أن معظم مستشاري حكام الإمارات هم فلسطينيون (2).
وفي كل دول العالم كان للفلسطيني بصمته الثقافية والعلمية والأكاديمية؛ مهندس الطيران (وســيم يوســف، الإمارات)، والطبيب (منصور فريد الأرملي “أمريكا”، شكري الخوري “أمريكا”، جمال الصالحي، “إيطاليا”، حليم أبو رحمة “الأردن”)، وعالم الفضاء (عصام النمر وجمال نايفة، أمريكا)، والباحث (بشارة خضر، بلجيكا)، والمعماري (راسم بدران، الأردن)، والأكاديمي (ابراهيم أبو لغد، أمريكا)، وعالم الرياضيات (سالم حنا خميس، أمريكا)، والمخترع (إدوار شمشوم، أمريكا)، وعالم النفس (علي كمال، العراق)، وجراح الأعصاب المبتكر (إلياس سليم “ألمانيا”، جون الحايك “سويسرا”)، وطبيب النسائية (حمدي فاروق الفرا، المانيا)، والمهندس النووي (مجيد كاظمي، أمريكا)، وعالم الجينات والطب الوراثي (أحمد الطيبي، كندا)، وعالم التكنولوجيا الحيوية (علي فطوم، أمريكا)، وعالم كيمياء الخلايا العصبية (علاء الدين الحسيني، أمريكا-كندا)، وطبيب الأشعة (كمال خلف الطويل، أمريكا)، وعالم الفضاء (سامي أسمر، أمريكا)، وعالم الفيزياء وكيمياء الذرة المنفردة (منير حسن نايفة، أمريكا)، وعالم الخلايا الجذعية (وائل كفينة، بريطانيا)، وعالم التربة (عصام شحرور، فرنسا)، وبروفسور الطب البديل (عوض منصور، أمريكا-الأردن)، وأصغر طالبة جامعية تدخل موسوعة جينيس (الطفلة إقبال الأسعد، قطر)، وعبقري التكنولوجيا الحديثة (الطفل محمد نافذ مدهون)، وعبقرية الحساب والشطرنج (الطفلة دانيا الجعبري)، وبيكاسو الشرق الأوسط (الطفل محمد قريقع).
سُلب الوطن، أو كما كان يقول أجدادنا المفجوعون الذين شهدوا ضياع الوطن بأم أعينهم وقلوبهم وجوارحهم: راحت فلسطين، وحُمّل الفلسطينيون وحدهم وزر ضياعه، وكأن القضية الفلسطينية قضية وطنية لا قومية، وصار الوطن المسلوب في يد الذين يلعبون ورق “المفاخرة بالأوطان” ورقة رابحة، يظهرونها في وجه “فاقدي أوطانهم” كلما غفت عروبتهم، وينادون برحيل “المرتزقة” إلى وطنهم، تاريكين بصماتهم المشرفة في “الأوطان” التي وطئووها يوما، وأحبوها بصدق.
فلسطينيون سجلوا أسماءهم بحروف من نور، جريدة الجزيرة السعودية، 5 مارس، 1016.
(2) المبدعون الفلسطينيون في منطقة الخليج العربي، شبكة أخبار اللاجيئن الفلسطينيين في لبنان، 22 يوليو، 2016