25°القدس
24.61°رام الله
23.86°الخليل
28.09°غزة
25° القدس
رام الله24.61°
الخليل23.86°
غزة28.09°
الأحد 29 سبتمبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.22دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.13يورو
3.7دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.22
جنيه مصري0.08
يورو4.13
دولار أمريكي3.7

هل الإنترنت هو سبب المشكل؟

533 (1)
533 (1)
أحمد بنعيسى

كنت أود الكتابة في هذا الموضوع منذ عهد بعيد، الأرجح أنه ليس موضوعا، بل مجرد خاطرة، خاطرة بلغت من التفاهة وسوء التركيب أن أحدهم لو عثر بها وهو يتسكع في جريدة فلن يعبأ بها، ولن يوليها ذرة اهتمام، وإن حدث وظفرت منه بنظرة، وقرأ الأسطر الأولى، فإن النص آنذاك سيكون قد حقق بعض المبتغى، ليس كل المبتغى ولكن بعضه، والبعض خير من لا شيء..

كانت تلوح في ذهني بذرة هذا الإشكال على النحو التالي: هل الإنترنت هو سبب المشكلة؟ هل هو السبب في الانفلات الأسري الذي بتنا نلاحظه في كل بيت حللنا به؟ إذ لم يعد الأولاد يَحْظَونَ بالجلسات الحميمية رفقة آبائهم، فلا الأم تنتفع بمساعدة بناتها تدبيرا لأشغال المنزل، ولا الوالد أصبح يطمع في مساعدة مِنْ ولده في عمل ما، أو النيابة عنه في مهمة. جميعهم قد انصرفوا إلى هواتفهم، يبحثون عن شيء ما بإبهاماتهم الصغيرة التي لا تعرف للملالة معنى، فهي دائبة بكرة وعشية في دفع الشاشة نحو الأعلى، دون أمل في أن يحل يوم تقفز فيه البنت نحو أمها وحمرة النشاط تُوَرِّدُ خديها قائلة: وأخيرا يا أمي قد عثرت على بغيتي، تخيلي أن إبهامي كاد يشل لفرط ما بحثت عنها، آآه لَشَدَّ ما أرقتني لياليَ وأياما.. لن يحل ذلك اليوم؛ لأن دفع الشاشة بالإبهام نحو الأعلى فعل يجري دونما غاية مرجوة أو هدف محقق، لكن أحقا أن الإنترنت هو سبب هذه الأزمة؟

الحقيقة المرة أن ليس الإنترنت هو الإشكال، فلقد كان قبله التلفزيون والراديو والجريدة والكتاب. وكانت الشكوى هي هي، ما تلبث تتلاحق ناعيةً الأجيال القادمة، وفي الآن، مُقَرِّضَةً الوضع الاجتماعي للحياة الماضية، قائلين: في الماضي كان كل شيء على ما يرام! في نظري المتواضع جدا، أن المعضلة تكمن في زاوية أخرى، فمن جهة مغايرة لم يكن الإنسان في عصر من العصور يملك المقدرة اللازمة لتخطي شيء من هذه المغريات، سواء كانت أجهزة أو كتبا أو جرائد، فالإنسان وهو يمارس وجوده يعاني مشكلة القلق، تداهمه أحاسيس الغربة كلما خلا إلى نفسه، أجل، إن جميع الناس الذين يبدون ناجحين ومتفائلين، هم وأولئك الذين يرزحون تحت ثقل الكآبة وانتفاء الجدوى، سواسية كأسنان المشط إزاء هذا الوضع، أقصد أنهم لا يطيقون الحياة.

الفرق بين هؤلاء وأولئك، أن المكتئبين المتشائمين يُعَبِّرُونَ عن ذلك، بمعنى أنهم لم يجدوا ما يشغلون به أوقاتهم الشاحبة فارتأوا أن يكتئبوا، فالاكتئاب شكل من أشكال التعبير عن عدم احتمال الوجود، ورسالة من رسائل الزهد في المواصلة، أما الآخرون ممن يصطنعون السعادة، فقد وجدوا ما يشغلون به حياتهم، وظيفة أو نشاطا يحبونه، فهم يملؤون به فراغ أنفسهم، فيشعرون بالاكتفاء، ينقضي عمر الواحد منهم دون أن يؤذيَه ثقل الأيام، ولو أنك جربت وجردته دفعة واحدة من كل الامتيازات ووضعته في مكان ما ليواجه فيه نفسه، يحاورها، ويبثها مشاعر التفاؤل وحب الحياة، وما كان يستشعره وهو منخرط الانخراط التام في عمله، فلا غرو أنه إن لم يجد متنفسا يعبر من خلاله عما ينهشه من الداخل نهشا، أن يفكر في الخلاص من نفسه بطريقة من الطرق، هروبا من الانسحاق تحت ثقل الذات..

لذلك فإننا نجد الأفراد في المجتمعات الراقية، ممن وفرت لهم مختلف سبل الراحة، يقبلون على الانتحار بنسب عالية، فلماذا يفعلون ذلك يا ترى؟ كثير من الناس بالأخص السذج منهم، يذهب إلى أن هؤلاء لما أعوزهم الإيمان بالله انتحروا، وهذا خطأ فادح، وحكم بالغيب؛ لأنه صادر عن حكم جاهز، مفاده أن كل المنتحرين ملحدون لا يؤمنون بوجود الله، إلا أن أي أحد منا يمكن أن يتساءل: ألا يمكن أن يكون بين أولئك الآلاف من المنتحرين شخص كان مؤمنا بوجود الله، ومع ذلك لم يستطع المواصلة فانتحر؟ أقرب من ذلك، ولنتمعن في حالنا نحن المسلمين، ألا يوجد بيننا ومنا من ينتحر، دون أن يكون ملحدا؟ الواقع يشهد بعكس ذلك.

إن الانتحار مرده الأساس ليس إلى انتفاء الإيمان أو ضعفه كما قد نتخيل، بل إلى أن بعض الناس لا يطيقون ثقل ذواتهم فيتجهون نحو الموت ليتخففوا منهم.. والشأن إزاء الإنترنت والتلفزيون والكتاب، لا يعدو كونها مجرد وسائل يهرب إليها الإنسان تخففا ذاته، ذاته التي إذا ركزت وعيها على نفسها انتابها إحساس رهيب بضيق يوقف سير الزمن، الشيء الذي يفضي بنا إلى مزاولة نشاط من الأنشطة يلهينا حتى ننسى، ولعل هذا، كان الداعيَ الأول لفكرة بناء السجون، إذ في هذا المكان يغلقون عليك لتواجه نفسك وجها لوجه، وهم إذا أرادوا مزيدا من العقاب يخصون به متهما ما، وضعوه في زنزانة منفردة. لماذا يفعلون ذلك برأيكم؟