11.68°القدس
11.44°رام الله
10.53°الخليل
17.4°غزة
11.68° القدس
رام الله11.44°
الخليل10.53°
غزة17.4°
الأربعاء 04 ديسمبر 2024
4.59جنيه إسترليني
5.11دينار أردني
0.07جنيه مصري
3.81يورو
3.62دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.59
دينار أردني5.11
جنيه مصري0.07
يورو3.81
دولار أمريكي3.62

من معاني الحج.. الاستجابة لله وحده

4
4
محمد بديع (فرج الله عنه)

قال تعالى: "وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ منْ كُلِّ فَجٍّ عَميق. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات" (الحج: 27 - 28)، فكانت الاستجابة الفورية، في نداء الأمة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"..

فالتلبية هي الاستجابة، والاستجابة لله تعالى هي جوهر العقيدة وأساس العبادة، فما أمرنا الله إلا بما في وسعنا عمله وتنفيذه، وهو السهل اليسير الطيب الجميل، والثواب الجليل والعطاء الجزيل؛ وذلك ليستصحب كل أفراد الأمة، هذا المعنى العظيم، الذي هو من أصول العبودية لله وحده، لنعز بها ونعلو، فأين نحن من معنى الاستجابة؟ ونحن المحتاجون إليها.. "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (محمد: 38).

أعظم معاني الاستجابة

هناك في هذه البقعة المقدسة التي يجتمع فيها حجيج الأمة، تتجلى أعظم معاني الاستجابة، وأكمل معاني الانقياد لله رب العالمين:

- في أرضٍ قاحلة لا زرعَ فيها ولا ماء ولا حياة، يأتي الأمر من الله تعالى، إلى إبراهيم عليه السلام، أن يُسكن أهله هناك.. فيستجيب.

- وتأتي الأم الوحيدة ورضيعها بين يديها فلا تجد إلا الوحدة والوحشة، وهي تقول مراراً: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بوادٍ غير ذي زرع ولا ماء، ولا أمن ولا أمان، لكنه مضى لتنفيذ أمر ربه لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، لاطمئنانها بأن الآمر بذلك هو الله تعالى.. فتستجيب.

- ويكبر الابن الحليم الصابر، وهو الذي رُزِقَ به إبراهيم على كبر، فاجتمعت فيه كل دواعي تعلق الأب بابنه، فيؤمر إبراهيم بذبحه بعد أن بلغ الابن أشده.. فيستجيب، يقول تعالى "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسنِينَ" (الصافات: 102 - 105)، فعلى عظم الأمر وشدة البلاء.. أسرة كلها تستجيب لأمر الله.

- وهناك على ثرى مكة؛ حيث يجتمع وفد الأمة، نزل على الحبيب المصطفى "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ" (المدثر: 1 - 2).. فاستجاب.

- وهناك.. نزل عليه صلى الله عليه وسلم "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً" (المزمل: 1 - 2).. فاستجاب.

- وهناك.. نزل عليه صلى الله عليه وسلم "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ" (الشعراء: 214).. فاستجاب.

- وهناك.. نزل عليه صلى الله عليه وسلم: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" (الحجر: 94).. فاستجاب.

- وهناك.. نزل عليه صلى الله عليه وسلم "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ" (غافر: 77).. فاستجاب.

- وهناك.. قام فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله، فقالوا آمنا وصدقنا، وسمعنا وأطعنا.. فكانت الاستجابة معنًى ملازماً لحياتهم لا ينفك، حتى أثنى الله عليهم، بقوله تعالى: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" (البقرة: 285)، وقالوا: "رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا" استجابة فورية كانت جائزتها "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ".

استجابة الأمان

إن بيت الله الحرام هو منطقة الأمن والأمان، في أتون المعارك المستعرة، والخصومات والصراعات بين المتزاحمين على تراب الأرض وطينها، والمتقاتلين على التفاهات والزعامات، والكل يريد الاستعلاء على الآخرين والقهر للآخرين، والجميع تقتلهم المطامع والشهوات، تقدم هذه المنطقة المباركة للعالم، السلام محل الحروب، والطمأنينة محل الخوف؛ حيث يشعر المسلمون بالحب والإخاء والاستقرار والاطمئنان، يقول تعالى ردّاً على خوف أهل الدنيا على دنياهم ومناصبهم ومكاسبهم المادية "وَقَالُوا إنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" (القصص: 57)، فيظل الحرم بكل ما فيه من نعم وأمن وسكينة ردّاً على كل مَن يتقول مثل هذا القول إلى يوم القيامة، وما أحوج البشرية المتصارعة اليوم إلى هذا الأمن والأمان؛ لتتعلم أن هذا الإسلام وحده هو زورق النجاة وسلم الفوز، والحل لمشكلاتها المتعاقبة والمتشابكة.

استجابة العزة

يقول تعالى: "فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ" (البقرة: 197)، ومن هنا تحدد الاتجاه لمسيرة الإنسان في الحياة، فالطريق الحافل بالرفث والفسوق والجدال والفساد يجب أن يغلق، وسحقاً لحياة الرفث والفسوق والجدال والاستبداد، سحقاً للفحش كله..

سحقاً لحياة الهبوط والسقوط والكذب والسرقة والتزوير..

سحقاً لحياة يُحجب المرء فيها عن ربه، إنها حياة تافهة رخيصة..

سحقاً للمهاترات والصراع والجدال..

ولنبدأ من الآن الاتجاه إلى الله وحده، مالك العزة وحده؛ ولذلك وهبها لرسوله وللمؤمنين، فلا مصدر للعزة غيره "أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعاً" (النساء: 139)، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (رواه أحمد)، فهذه ولادة جديدة بعد أن لبست كفنك واستعددت للقاء ربك رد عليك عمرك وزيادة.

فليكن منا عهد وميثاق جديد مع مالك الملك، الغني عن العالمين، فليكن ميلاد جديد لكل فردٍ مسلم، فالاستجابة لله هي معالم الطريق، وهدير التلبية، يعين المسلم على الصعب في سبيل عقيدته، هدير هو الحداء الذي يرفع المسلم إلى القمة، ويجعله يستعلي على كل الدنيا فتأتيه الدنيا وهي راغمة.

استجابة التضحية

إن المسلمين اليوم وغداً تنتظرهم في هذا العالم واجبات وتكاليف لا يستطيع أداءها إلا الذين تخففوا من ثقل الحياة وهمومها، وارتفعوا فوق متع الحياة، ولم يركنوا إلى الراحة والدعة وطلب العافية والسلامة، كما تنتظرهم أعباء لا قبلَ لهم بها، إذا لم يخلصوا أنفسهم لله، ويعطوا من وجودهم وكيانهم عطاء الخائف من يوم الحساب، الطامع في الثواب: "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (فصلت: 35).

لا بد أن يدرك المسلمون أن أمتهم اليوم وهي تمر بهذه الفترة العصيبة من تاريخها ستُشفى من مرضها، وستستعيد عافيتها ووحدتها وتحمل رسالتها بإذن الله، ولن تكون عاجزةً عن الحركة، فالعجز الحقيقي في هذه الأمة، إنما هو في شلل المواهب وفقدان الهمم والعزائم، وهذه الصحوة في شعوب الأمة وبخاصة شبابها، هي الشفاء من العلل، والاستهداء بالإيمان، والاستعلاء على متاع الدنيا؛ ولذلك يقسم رسول الله الصادق المصدوق "والله ليتمنّ الله هذا الأمر".