يتعرض الإنسان في هذه الحياة لمواقف كثيرة يحتاج فيها إلى الاختيار بين العديد من الأمور والأشياء ولا مهرب له من تلك العملية الضرورية، ويبقى أهم ما في ذلك أن تكون اختياراته متوافقة مع مواصفاته وما يطمح له؛ لهذا عليه أن يختار بين المتاح ما يناسبه، دون إغفال مسؤوليته التامة عن كل اختيار اتخذه بقراره الشخصي الحر، لأن أمورا بالغة الأهمية في حياته تتوقف على ذلك، بل وقد يتحدد باختياراته مصيره في واقعه الخاص وكذا ما يتعلق بدينه ودنياه وآخرته بصفة عامة، فالإنسان غير مجبور وإن كان تحت تدبير الله الذي يصرف شؤونه ويعطي لكل واحد مشيئة يختار بها ما يريد؛ أي أن للفرد إرادة اختيارية حرة وليس مقهورا أبدا في اختياراته، ولربما تلعب الصدفة أحيانا دورها فيصيب الإنسان نصيبا من الحظ في قرار جيد يتيح له الفرصة ليحسن الاختيار.
قد لا يختلف اثنين في تعريف حسن الاختيار، لكن تباين الآراء حاصل بالأساس في تحديد طبيعته، لهذا يظهر عدم التطابق في وجهات النظر حينما يتم وصف شخص قام باختيار موفق؛ فلكل واحد نظره الخاص الذي يلغي التشابه التام في الرؤى بين البشر، وإن أبصروا جميعا سعادة وتهلل أسارير الفرد الذي اتخذ قرارا صائبا في حياته، وما أريد الإشارة إليه هنا أن حسن اختياراتنا سبب وجيه لسعادتنا، لكن في نفس الوقت ذلك وحده لا يكفي لجعلنا سعداء على الدوام، ومن المهم أن نَعرف أن اختياراتنا مرتبطة بالشعور بالسعادة بشكل مباشر، ومتعلقة بقدرتنا الكاملة على الممارسة الحرة التي تقودنا في النهاية إلى الوصول للرضا الذاتي.
وليس من المستحيل أن يتعلم أحدنا كيف يحسن الاختيار ويتمكن من امتلاك أسس انتقاء أصلح وأنسب الاختيارات المرتبطة به كفرد مسؤول عن كل ما يصدر منه، بالرغم من أن هذا لم وربما لن يكون مقررا في مناهجنا التربوية المدرسية المختلفة، ولكن كل إنسان يمكنه أن يحسن الاختيار ويستمر في ذلك، بمجرد ما أن يتمكن من الترسيخ الذهني الصائب لما يود اختياره من قرارات نابعة عن قناعة ذاتية، مع رغبته عملية قوية في تغيير واقعه إلى الأفضل؛ فحسن الاختيار يقع في داخلنا بصرف النظر عن المشاعر اللحظية المصاحبة لانفعالاتنا السيئة في بعض الأحيان، والتي تحتاج بالدرجة الأولى إلى الرضا بكل سوء مقدر وقدر مكتوب، فما ذلك إلا سنة من سنن الحياة التي لا مفر منها، والتغيير للأحسن في ملكنا نحن ما دامنا أصحاب إرادة غير مقيدة.
ويظل الإنسان المسؤول الوحيد عن أفعاله وتصرفاته، وهو الذي بيده القرار الذي قد يضمن وجود حسن الاختيار بشكل وافر في حياته، والتوفيق في ذلك مرهون بحسن الظن بالله، والإيمان بقضائه وقدره كيفما كان، واليقين على الأقل في القرارات المتخذة على أن أسباب حسن الاختيار موجودة بالفعل من حولنا، وأن المطلوب هو التركيز عليها واستخراجها لتصبح كفكرة مسيطرة على عقولنا، وكممارسة نتدرب عليها لتوجه سلوكاتنا، فنتقن بذلك حسن الاختيار الذي لا يخرج عند الإنسان السوي عن كونه قرارا شخصيا يصنع في الحياة المرء الذي يمتلئ قلبه بالامتنان والعرفان لله على خير حال اختاره.
يكون حسن الاختيار نصيبا محتوما عند الذين يعرفون كيف يتعاملون مع ظروفهم الحياتية ومع ما عندهم من قدرات وإمكانيات، كما يسهل على الشخص أن يحسن الاختيار عندما يكون كما هو بلا أدنى محاولة لإرضاء الآخرين؛ فيسعى جاهدا بأن يظل في صورة خالية من التصنع بالرغم من وجود عوامل خارجية تمنعه من تحقيق ذلك، فالذي يضع حسن الاختيار نصب أعينه يصبح عنده من أهم الأشياء التي ينبغي المحافظة والسيطرة عليها، بل ويعتبر ذلك من الكفاح المستميت الذي يتطلب التوفر على قدر كاف من التحمل، والذي يستدعي بدوره الثبات حين البأس بنفَسٍ مفعمة باليقين والتضحية.
ولحسن الاختيار نصيب كبير في التمايز الحاصل بين الناس، فلربما لا يتميز فلان عن فلان إلا بقرار حر اتخذه عن قناعة به، وتبقى اختياراتنا تتأرجح بين الحسن والسيء، ولا يمكن اعتبار التوفيق في الاختيار موروثا أو نصيبا محتوما لأنه من الأمور التي لا إطلاق فيها؛ إذ لا يمكن أن نقول هكذا ولد هذا ملازم لحسن الاختيار، وهكذا ولد ذاك مسيء للاختيار على الدوام، ومن غير المنطقي أن تكون اختيارات المرء موفقة بالصدفة فقط؛ إذ لا دخل للحظ في المسائل التي تستلزم مراعاة الأسس والضوابط المتحكمة فيها، ولكي يتوفر حق الاختيار بلا نقصان ينبغي أن يكون المرء مستمتعا بحريته من غير تقييد وإكراه في اختيار ما يريده.
بالواقع الملموس لا يمكن إنكار شيء اسمه سوء الحظ، فالنصيب والقدر قد لا يبتسم لكثير من الناس في اختياراتهم فيغيب توفيق الله عنهم لأسباب لا نعرفها في غالب الأحيان، ومن المسلمات التي لا نقاش فيها أن الشخصيات الإنسانية تتسم بالاختلاف والتباين، فنجد من البشر من هو مقصر لكنه يحاول تبرير إخفاقاته في الاختيار بخلق أعذار تجرده من تحمل مسؤولية ما حصل معه، كأن ينسب ما يقع له من سوء لانعدام الحظ الجيد، فالذي يفتقر للحكمة في التعامل مع الاختيارات الحياتية يفضل عدم الاعتراف بتقصيره ومسؤوليته التامة في ما حدث له، لهذا السبب يلجأ إلى وسائل باطلة للإقناع نفسه وغيره بمبررات واهية.
وكل مكلف مسؤول عن نفسه لذا فهو في عرضة دائمة للاختيار في حياته، ولكي يضمن التوفيق في ذلك لابد له أن يسعى لاستكمال معالي الأخلاق والاتصاف بالأمانة والحكمة في قراراته، فغالبا ما يقوم حسن الاختيار على الاجتهاد ولا يبنى على العواطف والتخمينات، أي أنه يتشكل بحسب قابلية شخصية الفرد وقدرته على التعلم؛ لهذا يقتضي الأمر التوفر على تصور واع لمخرجات كل اختيار، ومعرفة أهم الإيجابيات والسلبيات التي يحتويها، مع ضرورة ترتيب الأولويات، واستشارة أهل الخبرة لاتخاذ القرار الصحيح الذي به يجني الإنسان ثمار اختياراته الصائبة، ولكي يتجنب الوقوع في المصاعب العويصة والمشاكل المعقدة والمستعصية ويبتعد عن الشعور بالندم على اختياراته.
ليس هنالك إنسان على هذه البسيطة يعلم عاقبة أمره؛ فربما نختار ما لا تحمد عاقبته وما فيه ضرر كبير لنا وفي اعتقادنا أننا اخترنا الأفضل لنا، لذا علينا أن نفوض أمرنا لله المدبر الذي يعلم مصلحتنا وما هو أنسب لنا، فلنستخيره ليبعد عنا الشر في اختياراتنا ويرزقنا الخير فيها، وإن أردنا السعادة في كل أمورنا فعلينا بالرضا باختيار الله لنا، وأن نوقن تمام اليقين الذي لا شك فيه بأن اختيار العليم لنا خير من اختياراتنا الذاتية، وعلينا بالتسليم والرضا بما يقع لنا وألا نكمل حياتنا حزنا ونكدا على فوات ما تمنته أنفسنا ولم تدركه، وألا نندم ونتحسر على ما اتخذنا من قرارات أضرتنا كثيرا وتبدلت بها أمور جوهرية في حياتنا.
لا تنتظروا الصُدَف والظروف المثالية أو توفر أمور معينة حتى تحسنوا الاختيار، درِّبوا أنفسكم على أن تكونوا أصحاب جرأة معقلنة؛ تقومون بكل ثقة باتخاذ قرارات تناسبكم كأشخاص مستقلين غير تابعين لأحد سوى للذي خلقكم، فكل أموركم التي فيها الاختيار تتطلب ذلك، مهما مال اعتقادكم إلى أن بعض الأمور عادية في حياتكم ولا تحتاج الدقة والرزانة لترجيح الأصوب والأفضل لكم، ولا تنسوا أن حسن الاختيار لا يعني عدم تجرعكم للآلام وتفادي مواجهة الصعاب، فحافظوا على رباطة جأشكم وهدوء أعصابكم، ولتعلموا أن حسن الاختيار صنيعكم الذي تصنعونه أنتم بأنفسكم، فاعملوا على تحقيقه من دون ما أن تنسبوا ذلك للحظ وغير ذلك، فما تفعلونه أنتم سبب في كونكم قادرين على حسن الاختيار.