اعلم هداك الله وجعلك متبعا لما به أمر، أن التواصل ضرورة بين بني البشـر، وهو ما يميزهم عن الشجر والحجر. ومع تبدل الأيام وتغير الأزمان، كان ضروريا لبني الإنسان، أن يتكيفوا مع ما هو حاصل، ويبتكروا ألوانا جديدة من التواصل. فاخترعوا الفيسبوك وتويتر والانستغرام، ثم أتبعوهم بالواتس آب وسناب شات والتليغرام. وأصبح الإنسان بضغطة زر أو لمسة شاشة، يشكو لأصحابه الحزن أو يدخل عليهم السرور والبشاشة، ولم يعد هناك بعيد مهما تناءت المسافات، فقد جعل الانترنت الجميع على بعد خطوات.
وكعادتهم لم يضيع بنو البشر هذه الفرصة السانحة، فانخرطوا في تواصل يصل اليوم بالبارحة، وتفنن بعضهم في استخدام ذلك التواصل لنقل الأخبار، بينما تخصص آخرون في تتبع الفضائح وكشف الأسرار. وخطف الفيسبوك الأضواء واجتذب الأنظار، وعجّت صفحاته الزرقاء بالمضيفين والزوار، وأصبح لكل شخص صفحة لها كلمة سر كالمفتاح، يزوره فيها من ينالون منه الإذن والسماح. فيكتب هو في صدرها ما يشاء، ثم ينتظر من زواره المديح والإطراء. فهذا يكتب تعليقا وذاك يكتفي بإعجاب، وثالث يعيد النشر لتعميمه على الأحباب.
وبدأ الأمر قاصرا على المناسبات، فهذا يحتفل بمولود وذاك ينعي من مات. والزوار يتوافدون ولا يقصرون في التفاعلات، فهذا يقدم التهاني وذلك يلهج بالدعوات. ثم انفتح المجال لأغراض أخرى، فأصبحنا نرى لكل شيء على الفيس ذكرا، فهناك من استغل الأمر للتجارة والإعلانات، فرأينا مرقص ينعي ولده ويصلح ساعات، وهناك من أرادت أن تغيظ جارتها أو غريمتها، فنشرت صورة لها وهي في أوج فرحتها.
وجاءت ثورات الربيع العربي لتشعر بعض الناس بقيمتها، وتحفزها على توضيح مواقفها ونشر كلمتها، فهيمنت السياسة على الفضاء الأزرق، وبدا للناس أن فجرا بعد الغياب أشرق. لكن سرعان ما تغلبت الثورات المضادة، وحاولت بالقمع كسر ما بثته الميادين من عزم وإرادة. فتحول الفيس إلى ساحة جديدة للصراع، وتاهت الحقيقة فيها بين الذئاب والثعالب والسباع. فهذا يدّعي وطنية ويتشدق بدولة مدنية، وذاك يريدها دينية ويحلم بها إسلامية.
وفي كل فريق ترى الصادق والمدعي، وفيهما أيضا تجد الغبي والألمعي. وكل يؤكد أنه على صواب، وأن خصمه أفاق وكذاب. وبدلا من حوار يقود إلى الحقيقة، ونقاش بنّاء بين الصديق والصديقة. استسهل الجميع تبادل الاتهامات، وطالت سهامهم الأحياء والأموات. وأحجم الناس عن تحكيم ضمائرهم وتشغيل عقولهم، واختار كثير منهم اتباع شياطينهم. وبعد أن كان الفيس مكانا للمسرّة، بات في أغلب الأحيان جالبا للمضرّة، ووضعنا نحن العرب لمستنا الأثيرة، وحولناه إلى ما يشبه حرب العشيرة، فهذا أغلق صفحته وذاك منع التعليقات، وهناك من لم يستخدم من خصائص الفيسبوك، إلا محاربة المخالفين بالأنفريند أو البلوك.
ولم يقتصر الأمر على الأفراد والجماعات، بل دخلت إلى ساحته الدول والحكومات، وبدت بعض الصفحات كأنها في حرب أو نزال كوني، وتولى أمرها من أطلق عليهم الذباب الإلكتروني، فضاعت الحقائق وانتشرت الشائعات، وتوارت المصداقية خلف التسريبات، ولأن الوعي قليل والعقل عليل فقد احتار الناس من يصدقون، ولم يعرفوا لمن يصغون، فاختلط الحابل بالنابل وتحول الفيس إلى مصدر للمشاكل. وبعد أن كان الناس يحبون ابن زوكيربرغ ويلهجون له بالدعاء، صار بعضهم لا يرى في الأمر أي فائدة أو غناء، فأقفل بعضهم الصفحات، واكتفى آخرون بمجرد المتابعة دون تعليقات، وفي أحسن الأحوال بوضع اللايكات وإرسال النكزات.