28.32°القدس
27.67°رام الله
27.19°الخليل
28.29°غزة
28.32° القدس
رام الله27.67°
الخليل27.19°
غزة28.29°
الأربعاء 26 يونيو 2024
4.74جنيه إسترليني
5.27دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.01يورو
3.74دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.74
دينار أردني5.27
جنيه مصري0.08
يورو4.01
دولار أمريكي3.74

88 عاماً على استشهاد "أسد الصحراء"

6
6
علي سعادة

عرف بجديته وحزمه، وصبره، بالإضافة إلى استقامته، وهو ما لفت أنظار زملائه، وأساتذته إليه.

اعتمد في جهاده على الكر والفر، وكانت حربه ضد العدو حرب عصابات فهو ورفاقه لا يمتلكون عتادا يماثل عتاد العدو، ولم يكونوا جيشا نظاميا.

هو «شيخ الشهداء»، و»شيخ المجاهدين»، و»أسد الصحراء»، و»أسد الجبل الأخضر»، و»بطل الإسلام والعرب».

أسد الصحراء وسيدها يواجه بأسلحة بدائية جيشا مجهزا بترسانة من الأسلحة الأحدث والأخطر في ذلك الوقت.

كان مريضا بالحمى، تهز رعدتها جسده، ورغم هذا قال لجنوده: «اربطوني على ظهر جوادي بالحبال حتى لا أتخلف عن القتال معكم».

اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، قاس وشديد التعصب للدين ورحيم عند المقدرة، لا يلين أبدا ولا يهادن إلا إذا كان الموضوع في صالح الوطن العربي الليبي.

كان يسير إلى المشنقة بخطى ثابتة، كانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، صعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ أذان الصلاة ويقرأ من القرآن الكريم الآية: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً».

ورجعت نفسه المطمئنة راضية مرضية.

عمر بن مختار بن عمر المنفي الهلالي، المولود عام 1862 ببرقة شرقي ليبيا، عرف اليتم في مرحلة مبكرة من حياته، إذ توفي والده وهو في طريقه إلى مدينة مكة لأداء فريضة الحج، فتولى الشيخ حسين الغرياني رعايته بوصية من أبيه، فأدخله مدرسة القرآن الكريم بالزاوية.

حصد عمر المختار انتباه شيوخه في صباه، مما جعل شيوخه يهتمون به في «معهد الجغبوب» الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء والمربين.

مكث في «الجغبوب» ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، وشهد له مدرسوه بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة.

ومع مرور الوقت وبعد أن بلغ عمر المختار أشده، اكتسب من العلوم الدينية الشيء الكثير ومن العلوم الدنيوية ما تيسر له، كما أنه أصبح خبيرا بمسالك الصحراء.

تربى على مبادئ «الدعوة السنوسية» ذات المنزع العلمي الجهادي، وقد أدت علاقته الوثيقة بالسنوسيين إلى اكتسابه لقب «سيدي عمر» الذي لم يكن يحظى به إلا شيوخ السنوسية المعروفين.

شق طريقه نحو الزعامة مبكرا حين حاز ثقة مشايخ الدعوة، فأسند إليه شيخ «الدعوة السنوسية» مشيخة «زاوية القصور» بالجبل الأخضر.

واختاره ليرافقه إلى تشاد عندما قرر نقل قيادة «الزاوية السنوسية» إليها عام 1899.

شارك أثناء وجوده بتشاد في المعارك التي خاضتها كتائب السنوسية ما بين عامي 1899 و1902 ضد الفرنسيين الذين احتلوا المنطقة، وكانت لا تزال وقتذاك ضمن الأراضي الليبية.

وفي عام 1908 دُعي للمشاركة في المعارك بين السنوسيين والقوات البريطانية على الحدود الليبية المصرية.

وعندما أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية التي كانت ليبيا حينذاك جزءا منها، وبدأت السفن الحربية تقصف مدن الساحل الليبي، سارع المختار إلى العودة إلى «زاوية القصور» لتنظيم حركة الجهاد ضد الغزاة الإيطاليين.

وتولى قيادة «المجلس الأعلى» للعمليات الجهادية الذي أدار أعظم المعارك في التاريخ الليبي مع المحتلين الإيطاليين، خاصة بعد انسحاب الأتراك من البلاد عام 1912 بموجب «معاهدة لوزان» التي تخلوا فيها لإيطاليا عن ليبيا.

وألحق المجاهدون بالغزاة هزائم مريرة، فقتلوا مئات الضباط والجنود، وخاضوا مئات المعارك في حرب استمرت عشرين سنة.

ولما انسحب السنوسيون من ليبيا إلى مصر عام 1922، ظلت الحرب قائمة بقيادته، ولجأ إلى حرب العصابات عندما حاصره المحتلون عام 1926 في الجبل الأخضر رفض مطالبهم بوقف القتال والخروج من البلاد، واستأنف قتالهم.

وفي إحدى المعارك عام 1931 عندما كان  يستطلع منطقة «سلنطة» في كوكبة من فرسانه، أرسل الإيطاليون قوات لحصاره والإيقاع به، ورجحت الكفة للعدو فأمر المختار بفك الطوق والتفرق، وقُتلت فرسه وسقط، ولم يتمكن من تخليص نفسه أو تناول بندقيته، وسرعان ما تم محاصرته وبعد يومين من القتال المستميت وقع عمر المختار أسيرا في يد الإيطاليين بعد اشتباك مع قواته. وحملوه إلي بنغازي، و أودع بالسجن الكبير بسيدي أخريبيش.

وقدم عمر المختار لمحاكمة عسكرية صورية في بنغازي إذ كان الطليان قد أعدوا المشنقة وانتهوا من ترتيبات الإعدام قبل بدء المحاكمة وصدور الحكم على المختار.

وحكمت عليه بالإعدام شنقا، ونفذت فيه العقوبة على الرغم من أنه كان كبيرا مريضا أتعبه كبر السن (73 عاما) وعانى من الحمى.

أحضر عمر المُختار مكبل الأيادى وفي تمام الساعة التاسعة صباحا من يوم  الأربعاء 16 أيلول/ سبتمبر 1931، وسلم إلى الجلاد، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدو لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذا تحدث إليهم أو قال كلاما يسمعونه، لكنه لم يتحدث، وسار إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين، وتم تنفيذ الحكم بإعدامه شنقا.

وكان الهدف من إعدامه إضعاف الروح المعنوية للمقاومين الليبيين والقضاء على الحركات المناهضة للحكم الإيطالي، لكن النتيجة جاءت عكسية، فقد ارتفعت حدة الثورات، وانتهى الأمر بأن طُرد الطليان من البلاد.

حاولت إيطاليا الاستفادة من مقتل المختار، فعملت على استمالة المجاهدين إليها وإقناعهم أن المقاومة لا فائدة تُرجى منها، لكن المجاهدين أبوا واجتمعوا وانتخبوا الشيخ يوسف بورحيل المسماري قائدا للجهاد الإسلامي.

ولم يكن لمقتل المختار الأثر الذي توقعه الطليان، فلم يخف عزمهم أو يتلاشى، بل ازدادوا تصميما على القتال وتحرير البلاد من المحتل الأجنبي، فواصلت الحكومة الإيطالية حملات الانتقام ضدهم، لكنها سرعان ما انشغلت بنشوب الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها خاسرة بعد بضع سنوات، وانسحبت كليا من ليبيا في  نيسان/ أبريل عام 1943.

واستلهم الليبيون في ثورة شباط /فبرايرعام 2011 تجربته فأطلقوا اسمه على جماعات مشاركة في المظاهرات الشعبية، ثم على ألوية عسكرية قاتلت كتائب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، كما ضمّنوا علمه الأسود ذا النجمة والهلال في علم الدولة بعد نجاح الثورة.

يقول عنه الجنرال الإيطالي غراسياني: «كان عمر المختار رئيسا عربيا مؤمنا بقضية وطنه وله تأثير كبير على أتباعه مثل الرؤساء الطرابلسيين يحاربون بكل صدق وإخلاص».

ويضيف غراتسياني في حديثه مع عمر المختار في كتابه «برقة المهداة»: «عندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أني أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيتهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية.. يداه مكبلتان بالسلاسل رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وكان وجهه مضغوطا؛ لأنه كان مغطى رأسه بالجرد، ويجر نفسه بصعوبة نتيجة الإعياء، وخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس ككل الرجال، له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسير».

يصفه غراتسياني بأنه كان حاد الذكاء واسع الثقافة قاسي الطباع، إلا أنه شديد النزاهة والتواضع، فكان فقيرا لا يملك شيئا. وقال عنه أيضا أنه متدين متعصب، إلا أنه رحيم عندما تكون المقدرة في يده، وشديد الولاء والإخلاص لوطنه. وقال: «ذنبه الوحيد أنه كان يكرهنا كثيرا، وفي بعض الأحيان يسلط علينا لسانه، ويعاملنا بغلظة مثل الجبليّين، كان دائما معاديا لنا ولسياساتنا في كافة الأحوال، ولا يلين أبدا، ولا يهادن، إلا إذا كان الموضوع في صالح وطنه ليبيا، ولم يخن قيادته، فهو دائما موضع الاحترام رغم التصرفات التي تبدر منه في غير صالحنا».

صحيفة «التايمز» البريطانية قالت في مقال نشرته في اليوم التالي لإعدامه: «المختار الذي لم يقبل أي منحة مالية من إيطاليا، وأنفق كل ما عنده في سبيل الجهاد وعاش على ما كان يقدمه له أتباعه، واعتبر الاتفاقيات مع الكفار مجرد قصاصات ورق، كان محل إعجاب لحماسته وإخلاصه الديني، كما كان مرموقا لشجاعته وإقدامه».

رجل استثنائي مدحه الشعراء، وأثنى عليه الخطباء، وكتبت فيه الكتب والمقالات، واستلهم سيرته جميع العرب في مراحل نضالهم الطويلة ضد المستعمرين الأجانب وضد السيطرة الغربية على شعوب المنطقة العربية.

وتأتي مرثية أمير الشعراء أحمد شوقي في مقدمة ما كتب عن عمر المختار التي مطلعها:

ركزوا رفاتك في الرمالِ لواءَ

يستنهض الوادي صباحَ مساءَ

جــرحٌ يصيحُ على المدى

وضحَيَّةٌ تتلمَّسُ الحريَّة الحمراءَ

يا أيُّها السّيف المجرَّد في الفلا

يكسو السيوفَ على الزمانِ مضاءَ

تمضي 86 عاما على رحيل شيخ المجاهدين ولا يزال الرجل حاضرا في الذاكرة وكأنه لم يرحل من بيننا أبدا، كأنه حقا «منارة من دم» كما قال شوقي.

أصبح المختار عند العرب شهيدا وبطلا ورمزا وأيقونة، ومثال القائد الصالح صاحب العقيدة السليمة السوية، الذي بذل نفسه وماله للدفاع عن دينه وبلده ضد عدو لا يعرف الشفقة. كما أصبحت إحدى جملاته الأخيرة: «نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت، وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي» إحدى أبرز العبارات على لسان المقاومة على حروب الاستقلال الوطني في الوطن العربي.

أصبحت أقواله حكما تسترشد بها الأجيال على مر السنين، يقول المختار :»إنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الايمان أقوى من كل سلاح.»

و يقول:» «إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن وليس لنا أن نختار غير ذلك إنا لله وانا إليه راجعون.»

وفي مكان آخر يقول المختار: «لئن كسر المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقي.»

ويقول أيضا:»كن عزيزا وإياك أن تنحنى مهما كان الأمر ضروريا فربما لا تأتيك الفرصة كي ترفع رأسك مرة أخرى.» وأيضا :»حينما يقاتل المرء لكي يغتصب و ينهب، قد يتوقف عن القتال إذا امتلأت جعبته، أو أنهكت قواه، و لكنه حين يحارب من أجل وطنه يمضي في حربه الى النهاية.»

في ذكرى استشهاد عمر المختار نردد مع «شيخ المجاهدين» قوله  :»المعركة التي تنتصر فيها وحدك، لا تحتفل بها مع الذين تخلوا عنك وأنت تحت ضرب السيوف.»

نعم «أسد الصحراء» .. صاحب الحق يعلو وإن أسقطته منصة الإعدام.

نعم استطاع المدفع إسكات صوتك لكنه لم  يستطيع إلغاء حقك في الجهاد وابتسامة المنتصر تتراقص على وجهك المهيب وروحك الطاهرة.