منذ يومي الأول بالمدرسة وأنا اسمع هذه الكلمات: أدرس جيدا لتحصل على وضيفة جيدة، أدرس لتصبح طبيبا أو مهندسا أدرس لكيلا تعيش حياتا تعيسة كالتي عشناها ونعيشها. غالبا ما كانت هذه العبارات المشجعة والمحفزة في نظر قائلها، أسمعها من عائلتي وأحيانا من الجيران وبعض الأقرباء. إنها فكرة سائدة عند العامة، تكاد تغدو ظاهرة، إنها الدراسة من أ التوظيف، لا من أجل التعلم وبناء الشخصية فكريا وثقافيا واجتماعيا، إن فكرة الشغل أو العمل تسيطر على عقول الأغلبية الساحقة في مجتمعاتنا، كبارا وصغارا. ما يدعو إلى التساؤل عن أسبابها، تأثيرها ولما لا الإجابة عن سؤال: هل ندرس لنتعلم أم لنتوظف؟
إن فكرة التوظيف أو العمل باعتباره العامل المنقذ والمغيث من الفقر والجوع، هي فكرة سائدة جدا ويؤمن بها غالبية المجتمع، فمعادلة الحياة لدى الكثيرين، هي أن الدراسة تساوي العمل والعمل يساوي المال والمال يساوي الحياة والعيش الكريم والمكانة المرموقة. فلا سبيل في نظرهم للوصول إلى الشغل أو الوظيفة سوى الدراسة بحيث لم تعد المدرسة غاية للتعلم وبناء العقل أو اكتساب أفكار أو مهارات علمية أو حياتية. بل هي مجرد وسيلة للحصول على غاية الغايات، إنها الوظيفة. وبذلك تراجع الدور الذي كانت تؤديه المدرسة باعتبارها مكانا يلتجئ إليه كل باحث عن العلم والمعرفة، وكل راغب في تطوير نفسه ومجتمعه.
لقد كانت فكرة الدراسة والبحث العلمي ليس ببعيد في العقود الأخيرة هدفا ساميا واعتبر الطالب أو الأستاذ الباحث سيد زمانه ومكانه. وكانت الجامعات تعج بالمناظرات وصخب النقاشات العلمية بين الطلبة، حيث كان الهم الأول هو التحصيل العلمي والتفوق على الاقران من حيث الأفكار والزخم المعرفي والمعلوماتي.
لا يمكن القول إن فكرة التوظيف خلال الفترات السابقة لم تكن تشغل عقول الطلبة والباحثين، ولم يحمل أحد هم العمل أو الوظيفة، بل كانت هي الأخرى جزء لا يتجزأ ضمن فكرة الدراسة ككل، ولكن هذا التكامل تم تقزيمه على حساب الهدف الأسمى وهو تحصيل المعارف وتهذيب الفرد وخدمة المجتمع ككل. وبخاصة مع تزايد النظرة المادية للحياة والاشياء وهي نظرة لا تقف كثيرا عند العلم المجرد بقدر ما تعطي أهمية كبرى للألقاب وللجانب البراق من حياة الناس ومظهرهم الخارجي. فترى أن كثيرا من الطلبة والمهتمين، يتفقون على رأي واحد، فاذا سألت أحدهم عن هدفه من الدراسة سيجيب ببساطة إنه يدرس للحصول على شهادة تخوله الحصول على وضيفة مرموقة وتضمن له دخلا ماديا يمكنه من تحقيق البريق الاجتماعي والمكانة التي يسعى ‘ليها. وهذا الرأي سائد عند شريحة واسعة من الطبقات الفقيرة والمتوسطة وذات الدخل المحدود. أما بالنسبة للفئات الغنية فهدفهم الأساسي من الدراسة هو الحصول أيضا على شهادة، لكن لغاية مختلفة وهي المباهاة بها أمام الناس، وليؤكدوا أنهم نجحوا في ميدان آخر غير الميدان الذي وجدوا فيه.
وهنالك أيضا بعض الآراء المحايدة التي تعتبر أن الدراسة رهينة بغايتين، فالتعلم يكون لهدف المعرفة والمال. فالمعرفة هي وسيلة تساعد على اكتساب المال، فهما وجهان لعملة واحدة، فمن أجل الوصول إلى المال لابد من المعرفة واكتساب الشهادات للحصول على وظائف، فلا أحد في رأي هذه الفئة يدرس بغرض العلم فقط.
أو من أجل أن يوسع معلوماته في مجال محدد، أو يدرس لمجرد الدراسة والعلم فهذه أفكار طوباوية لا معنى لها في مجتمع اليوم، وفي هذا العالم الذي غلفته المادية وأصبح فيه المظهر والمكانة الاجتماعية هي أهم الأشياء التي تحدد قيمة الشخص. وهذا رأي فيه بعض من الواقعية والصواب لكنه يبقى رهينا برؤية فئوية ونظرة خاصة.
من الأسباب الرئيسية لتراجع الدور التعليمي والتثقيفي-التربوي للمدرسة على حساب الدور الوظيفي البرغماتي والمادي، هو كما أشرت في فقرات سابقة، هو سيادة النظرة المادية للأشياء، ناهيك عن الفقر وعدم مقدرتنا على السير في ركب التنمية والتطور وتراجع المستوى الفكري في ظل العولمة وانتشار التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي. إضافة إلى اعتمادنا على برامج ووسائل تعليم تقليدية، ما جعلنا خارج نسق التاريخ وغير قادرين على مواكبة المسار التقدمي للعالم. ما يجعلنا بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في بنياتنا الاجتماعية والتعليمية. ومحاولة اصلاح التعليم الذي أضحى حاجة بشرية لعيش حياة طبيعية ومطلب نحيا كلنا من أجله، فنحن نلتحق بالمدارس والجامعات، لنتمكن من تحقيق حياة متوازنة ومستقرة وملبية لبعض طموحاتنا الفكرية الاجتماعية والمادية.
ربما الآن قد تبدو إجابة سؤال هل ندرس لنتعلم ام لنتوظف واضحة المعالم. ذلك أن أهمية المدرسة والتعليم بصفة عامة، لا تقف عند غاية أو حد معين، ولا يمكن حصرها في مجال وحيد. فالدراسة لا تقتصر على التعلم فقط أو لمجرد الحصول على وظيفة، بل هما معا يشكلان تكاملا ونسقا مستمرا على كل شخص أن يحاول الموازنة بينهما وعدم إعطاء أهمية للواحد على حساب الاخر، فلا يمكننا أن نعمل دون أن ندرس، ولا يمكننا العيش دون أن نعمل.
الحديث في هذا الموضوع أحالنا إلى موضوع أهم، وهو الاهتمام بمستوى التعليم في مجتمعاتنا، فلا يمكن الحديث عن هذا الموضوع في ظل نظام تعليمي فاشل ويحتل المراتب الأخيرة عالميا. فالتعليم اليوم هو أساس اجتماعي تنموي وأسلوب حياة أو هو الناظم والمسير لهذه الحياة والمحدد لملامحنا اليوم وغدا. فنحن ندرس لنعيش ونتعلم لنمارس ونستفيد ونناقش من أجل المواصلة في ظل هذا المجتمع العالمي.