الرأي العام هو رأي الأغلبية على مستوى المجتمع والعالم الذي يبرز دوره في المجتمعات الديمقراطية بشكل واضح للتأثير على أصحاب القرار والنفوذ في إيجاد حل لمشكلة معينة أو حالة إنسانية خاصة.
قديما كانت قضايا الرأي العام تثار على نشرات الاخبار والصحف المحلية، أما اليوم أصبحت هذه القضايا تأخذ مداها حسب انتشارها في مواقع التواصل الاجتماعي، كلما تصدرت العناوين صار تجاوب أصحاب القرار وتدخل المنظمات الإنسانية أقوى وأسرع، قد يبدو لرواد هذه المواقع قوتها في حل وإيصال الكثير من القضايا للرأي العالمي وقدرتها على التأثير في الجهات المعنية من أجل تغيير مصير ضحاياها، لكن ما مدى واقعية تغيير العالم الافتراضي لقوانين العالم الواقعي وبالتالي حل قضايا الرأي العام التي تتصدر مواقع التواصل الاجتماعي؟
في قضية مقتل جمال خاشقجي في السفارة السعودية بإسطنبول في تركيا 2/10/2018م تصدرت منصات التواصل الاجتماعي لأكثر من ثلاثة أسابيع، وحركت الرأي العالمي وكان لها دور كبير في جعل العديد من الدول تعبر عن موقفها اتجاه القضية، لكن النتيجة يومنا هذا ما زالت عالقة ولم تتعد عن المطالبة بإعدام خمسة متهمين وسجن ستة آخرين، لم تستطع مواقع التواصل الاجتماعي الضغط أكثر لمعرفة القاتل ومكان جثة خاشقجي إلى يومنا هذا!
مجازر الروهينغا في الصين حيث يعيش مسلمو الروهينغا في ميانمار (بورما سابقاً)، ويبلغ عددهم نحو مليون نسمة في ولاية "راخين" الساحلية الغربية. تحرم هذه الأقلية من الجنسية وملكية الأراضي والتصويت والسفر ويجرى استعبادهم على يد الجيش، ما دفع مئات الآلاف منهم للهروب إلى تايلاند وبنغلاديش، لكنهم يجبرون عادة على العودة، أعلنت الأمم المتحدة بعد فشل بعثاتها أنهم يتعرضون لإبادة جماعية، انتشار أخبار هذه المذابح والمناشدات الإنسانية لإغاثة مسلمي الروهينغا أيضا لم تساعدها مواقع التواصل الاجتماعي، فحتى هذه اللحظة لم يعرف أن الصين توقفت عن اضطهادهم ونبذهم.
قضية أبناء البنت المتوفاة قبل والديها لا يرثون في القانون الأردني، في شهر فبراير من العام المنصرم أثارت مواطنة أردنية كانت قد توفيت أمها قبل جدتها بشهرين مما أدى إلى حرمانها من حصة أمها من الميراث، حيث أن قانون الأحوال الشخصية في الأردن ينص على أن "الوصية الواجبة" تكون فقط لأبناء الابن المتوفى قبل أبيه استنادا للقاعدة الفقهية "الغُرْمُ بالغُنْم"، تقول هذه القاعدة الفقهية إن "من ينال النفعَ بالشيء عليه تحمل ضرره"، وبحسب مفتش المحاكم الشرعية في دائرة قاضي القضاة بالأردن منصور الطوالبة، فإن الأبناء الذكور في المجتمع الأردني هم عادة من يتحملون نفقات أبيهم، خاصة عندما يكبر في السن. لهذا، منح القانون لأبنائهم الحق في أن يحلوا محلهم في الإرث من الجد.
بالرغم من أننا جميعا نعلم في زمننا الحالي أصبحت البنت وأبنائها يتحملون إعالة جدهم مثلهم مثل الولد وأبنائه، ويوجد كثير من الحالات يتنصل الولد من مصروف الجد، وتتكفل البنت بمصروف والديها، أيضا لم تحفل مواقع التواصل الاجتماعي بتغيير القانون إلى الآن، وما زالت تظلم حالات كثيرة لو كانت في دول عربية وإسلامية أخرى غير الأردن لأخذت حصتها بالكامل في ميراث أجدادهم. أخيرا وليس آخرا قضية الفلسطينية إسراء غريب، هل سيغير تصدرها لمواقع التواصل الاجتماعي حكم المحكمة في قوانين جرائم الشرف؟
مواقع التواصل الاجتماعي تتصدرها يوميا العديد من حالات تصبح رأي عام، بعضها يكون كيدي، عندما يجري التحقيق بها يظهر كذب أصحابها واستغلالهم تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي للانتقام من شخص ما، أو تشويه جماعة تنتمي لجهة معينة، مستغلة تناحر واختلاف الأطياف في عالمنا العربي، بعض القضايا لا تحظى بالدعم الكافي، وبعضهم يستغل قضيته في جمع الأموال والتبرعات لغير مستحقيها.
إن هذا يدفعني للقول أن الرأي العام في منصات التواصل الاجتماعي نخبوي وأحيانا كثيرة انتقائي يوجه ويعدل مستغلا الاختلافات الطائفية والسياسية في دول العالم الثالث، وعدم وجود دراسة لتعديل القوانين كي تتجاوب مع التغيرات الحاصلة في المجتمع، يشغل الناس في التفاصيل، فتثور ثائرتهم وعاطفتهم، ثم يأتي تجاوب الجهات المعنية تجاوبا مبدئيا واعدا بنتيجة أكبر تستحق تعاطف الناس، غالبا يمتص غضب الرأي العام، وخلال أسابيع تكون قضية أخرى شغلتهم عن القضية السابقة، في غضون أشهر ينسونها تماما، مثل إبر التخدير أثناء العملية، تهدأ قليلا ومع الأيام تنسى الألم تماما، فإذا تعرضت لحادث مشابه تتذكر العملية ولكن تفاعلك مع الألم يكون أقل بكثير، كذلك قضايا الرأي العام يعتمد تجاوب الجهات المعنية على تذكر الناس وتفاعلهم إذا ظهرت القضية من جديد، كذلك يعتمد على الجهات التي تدعم القضية المعناة وقوتها في التأثير على تغيير القوانين والضغط على الناس ليكونوا طرفا في ذلك.
الوعي بطبيعة ما يتداول في العالم الافتراضي -الذي أصبح يشاطر عالمنا الواقعي أهمية-ضرورة محتمة، حتى لا نكون جزءا من خلق بلبلة وفوضى اتجاه موقف أو قضية ما ونحن غير مدركين تماما لظروفها وأسبابها، كثيرا ما توجه الأنظار نحو ضحية مظلومة على أنها ظالمة، والعكس صحيح، العديد من المشاكل والتحديات تفاقمها الأكاذيب والافتراءات التي قد أنشرها أنا وأنت دون وعي منا بحقيقتها، ولا نعرف مصدرها، كذلك اهتمامنا بالقضية لا يكون وقتيا ينتهي بانتهاء وقت اكتساحها لمواقع التواصل، علينا التركيز على حدوث تغيير من أجل إنقاذ كثير من الناس حتى لا يقعوا فريسة لمثل تلك القضايا.
لكن ما أخشاه أن تنحصر إنسانية وتجاوب الكثير منا في إطار الإعجاب أو عدمه، التعليق إيجابا أو سلبا، المشاركة والنشر، ونكتفي بذلك دون المساهمة الفعلية في المساعدة وتغيير مصير المنكوبين، على صعيد آخر، هل هذا يعني إلغاء الأثر الإيجابي للعالم الافتراضي؟ بالتأكيد لا، فمقارنة بالسنوات السابقة، لم تكن تنتشر قضايا الرأي العام بهذا الشكل السريع والقوي، أضف إلى أنها أشركت المواطن العادي في المساهمة في حل ومساعدة أصحاب هذه القضايا، وزادت كذلك من فرصة وصولها عالميا وسرعة تجاوب الجهات المعنية، وأخذ صداها الذي يعجل في حماية أصحابها والدفع بهم للخروج من قضاياهم.