لا أصدق أني عدت إلى الكتابة من جديد، أطلقت سراح كلماتي كمن خرج من سجن بعد أعوامٍ من العزلة والانقطاع. جف قلمي أثناء دراستي العليا حيث اعتدتُ على الأبحاث في مجال الإعلام دون الكتابة، وبعد حصولي على درجة الماجستير ودخولي معترك العمل المخالف لدراستي، حزن قلمي وابتعدتّ عن الكتابة، كأن كلماتي أصابها الشلل واعتكفت أحرفي، حتى أفكاري تلاشت مع وتيرةِ الأيام السريعة.
لا زلت أذكر كيف بدأت الكتابة في الصف التاسع كنت أختنق من كابوس الامتحانات فامسكتُ بالقلم وبدأتُ أفرغ ما بداخلي من عضب وحقدٍ على الدروس والامتحانات. كنت أكتب عند الغضب الشديد، وتطفو أفكاري على ورق مجعدٍ بخطٍ قبيح. وكلما كان الغضب كبير كلما ضاقت عليّ صفحات دفاتر الخرطوش، ويبدأ صراعي مع الكلمة علني أجد ُ بين أحرف اللغة العربية كلمةً تساعدني على الاسترخاء.
رافقتني تلك العادة حتى العشرينات من عمري كنت أكتبُ وأمزق دائماً، بعدها أنشأت أول مدونة خاصة على غوغل، كنت أخجل من عرض أفكاري ومقالاتي وكأنني أبوح بأسراري، أعشقُ الخصوصية وأحب ارتباطي بذاتي والغوص في طيّات افكاري فلربما أجد بر النجاة والسموّ بنفسي وكلماتي نحو الأفضل. خجلي انتصر على الكلمة، وأهملت تلك المدونة رغم نجاح بعض المقالات. من جديد عدتُ إلى الكتابة على منبرٍ عربيّ حر بعد تخرجي من البكالوريوس، كانت مواضيعي أكثر نضوجاً وانفتاحاً على المجتمع، نجحتُ في أكثر من مقال ولكن عادت وانطفأت الكلمة لأسبابٍ أجهلها حتى اليوم.
تتصارع الأفكارُ في ذهني، والكلمات تبحث عن مخرج وقلم وورق ومدونة! فكانت مدونة الجزيرة إحدى المنافذ التي ساقتني اليها كلماتي وحدثتني بها نفسي، لكن رويداً ماذا أكتب؟ ومن أين أبدأ؟ هل ما زلت أملك الموهبة! صارعني الخوفُ مجدداً، فعدت واستذكرت القاعدة الذهبية في الكتابة «إذا أردت أن تكتب عليك بالقراءة أولاً».. هكذا تصفحت مدونات الجزيرة وابحرتُ في عناوينها ومواضيعها؛ عالمٌ من الأفكارِ والآراءِ والصراعات، لكن أيضا كيف أبدأ؟ وهل علي الانتظار أكثر؟
بدأت بمطالعة تلك العناوين الجريئة يوماً بعد يوم قرأتُ العديد من المقالات. المدونون من مختلفِ أنحاء العالم منهم أصحاب فكرٍ وقضية وأعمال مرموقة، ولكن هل سيكون لي مكان بين هؤلاء النخبة؟ ربما! مع ازدحام المقالات وتشعب المواضيع منها العميق بعباراتٍ جذابة ومنها مقالات بأوصاف بديعة وتحليلات دقيقة، كنت أصغرُ شيئاً فشيئاً امامها، ترتجف أفكاري كل مرةٍ أقرأ فيها تلك المدونات؛ ولكن لما لا أحاول أن أيقظ مارد الكلمات لكي يخرج من قمقم اليأس والخجل؟
تتعثر كلمات بعض كتّابِ الوطن العربي لعدةِ أسباب يختصرها الخوف، الخوف من الفشل الخوف من الأخطاء الخوف من الناس وصولا إلى الخوف من السجن والمحاسبة القانونية، ليست موانع الكتابة فقط تُقتصر على الحكومات والأنظمة الصارمة، بل أيضا يأتي المجتمع المحافظ حينً والظالم حينً آخر ليقضي على حلم الكاتب في الصعود بكلماته نحو الفكرة. حتى الكاتبات يترددْن في عرض مواضيعهن خوفاً من القيل والقال ونسج الحكايا، فبمجرد عرضِ منشورٍ بسيط يأتي البعض بتفسيرات غريبةٍ عجيبة تصل حدود الفضاء، ويظل الرهان على القارئ المثقف الواعي.
بدأتُ مسلسل البحث عن الفكرة ولكن لما الغوص عميقاًّ؟ الفكرة موجودة في كل مكان وزمان. من حولنا قضايا وأزمات وتساؤلات لا تنتهي ولا تنضب، وما علينا إلا قطفِ تلك الفكرة وتزينها في إطارٍ جذاب وراقي. «البساطة هي سر النجاح، خاصة إذا كان محورها الإنسان» درس من دروس الكتابة التي تعلمتها من تجربتي الصغيرة، فكانت بداية الكلمة عندي من جديد لتستيقظ وتضرب موعد مع مقال في مدونة تحدّيت بها نفسي؛ خجلي، وترددي، لتنتصر الكلمة في النهاية. كثرٌ منا يدخل في صراع مع الكلمة ويميل نحو الكتابة، ولكن في معركةِ الحياة إما أن تطحنك تعقيداتها أو تشقّ طريقاً نحو الكلمة مثلما حصل معي، فتظهر الفكرة فالكتابة!
على مبدأ السّيل يبدأ من قطرة، أمسكت قلمي وبدأت ببساطةٍ أسرد صراعي مع الكتابة وعلاقتي بالكلمات، التي أصرت أن تَعود بعد انقطاعٍ طويلٍ. لم ارسله، احتفظت به كأول الغيث، واخترت موضوعا آخر للنشر. لعل هذه المرة العودُ احمدُ. هو مقال بسيط! موضوع إنساني من واقع تجربتي المتواضعة، وصفت وسردت ثم ختمت، وبدأ سيل الأفكار والكلمات تتدفق من جديد، كنت كأرض عطشى هطلت عليها أول حبات المطر بعد صيف جاف وطويل، تدفقت كلماتي أخيرا على الورقة. عاد شغفي عادت الأفكار، وخرجت الكلمات إلى النور.
ها هي تكبر وتتنوع مدونتي، كم أشعر بجوع الكتابة ولا أعرف ولن أعرف الشبع. الكتابة ليست للشهرة، فهي راحة، علاج وطمئنينة، تخرج من أعماقك، هي جزء من شعور أو إحساس، جزء من نفسك ومن ذاتك وهويتك، فالكتابة بحر عميق وكنز لا ينضب، كما هو سلاح مخيف وقاتل أو ربما طوق نجاة للغارقين والقابعين خلف الظلمات.
لا تخف ولا تتردد في عرض كتاباتك، دع الكلمة تخرج، دع أفكارك تحلق نحو السماء، أيها العربي لا تخف فالكلمة من حقك، تشجع ولا تتردد، ها هو اليوم قد أقبل لتمسك قلمك وترتب أفكارك، لنعود أمة مثقفة، أمة العلماء، أمة الأدباء، فنحن أبناء اقرأ وأبناء اقرأ سيعودون ويكتبون من جديد، دع الأحرف ترسم نفسها، تحكي قصصا وتعالج قضايا أو حتى تحلل أحداثا، مهما طال ظلام الصمت سيأتي ربيع الكتابة ولسوف تتحرر الكلمات من الخوف والخجل.