ليس لدينا شكّ في أن غزة ستقاوم ببسالة كبيرة، وستسجّل بصمات إنجاز نوعية هذه المرة، في حال فرضت عليها مواجهة مفتوحة مع الاحتلال الذي قلنا دائماً إنه لن يسكت طويلاً على بؤرة مشتعلة في خاصرته لا ترتبط معه بأي اتفاقيات سياسية أو أمنية أو اقتصادية، ولا ترهن إرادتها لقاء ما تجبيه من أموال ومعونات! ولا يبدو في المقابل أن الكيان الصهيوني سينتظر حتى يحلّ موسم الحصاد العربي، وتستقرّ أوضاع البلاد العربية الداخلية بعد إسقاط طغاتها، خصوصاً أنه جرّب تعامل الشارع العربي مع انتهاكاته في عهد (ما بعد الثورة) حين قتل جنوداً مصريين على الحدود، وكيف انعكس ذلك على الداخل المصري، رغم أن الوضع الداخلي لم يستقرّ بعد، وما زال ترتيبه أولوية لدى الشعب ونخبه السياسية على حدّ سواء، لكنّ ذلك لم يمنع من محاصرة السفارة الإسرائيلية وإنزال العلم الإسرائيلي عنها، والإصرار على المطالبة بطرد السفير وإسقاط معاهدة كامب ديفيد. لكلّ ذلك، لا بدّ أن تدار المعركة مع الاحتلال على الجبهة الغزية بحكمة بالغة، رغم يقيننا بأن استهداف غزة ما زال يتصدّر أجندة أية حكومة إسرائيلية، لكن تأجيل المواجهة المفتوحة ما زال أفضل من الدفع باتجاهها، لأن خوضها في ظل وضع عربي مستقر ومتحرر من قيود العبودية أفضل من خوضها في ظلّ انشغال كلّ الساحات العربية بتضميد جراحها أو استمرار ثورتها ضدّ طغاتها، على الرغم من أن القضية الفلسطينية ما زالت تشكّل الهمّ المركزي لدى العرب والمسلمين، وهم لن يترددوا اليوم عن نصرتها بأقوى مما كان ينتظر منهم سابقاً. فصائل المقاومة في غزة مطلوب منها اليوم أن تتعامل مع اعتداءات الاحتلال وفق معادلة مدروسة ومجمع عليها، وليس وفق الاجتهادات الفردية التي تختلف من فصيل لآخر، خصوصاً وأن بعض الظواهر السلبية لن تلبث أن تطفو على سطح الأزمة حين نجد بعض الفصائل تصرّح وتتصرف بوحي من اجتهادها الخاص، وبالعقلية الفردية القديمة التي كانت تخوض المواجهة في ظلّ نظام سياسي محارب للمقاومة وليس حامياً لها كما هو الحال اليوم. ليس منتظراً من غزة أن تسكت على اعتداءات الاحتلال أو تظلّ متمسكة بالتهدئة في جميع الأحوال، لكن آلية الردّ والتصعيد وحتى الخطاب المقاوم العام ينبغي أن ينطلق من إجماع فصائل المقاومة، ومن قيادة موحدة لها تمثل الجميع، ويصدر عنها خطاب واحد، بدلاً من فوضى التصريحات اليومية المتناقضة حيناً والمبالغ فيها حيناً آخر، والتي لا تعكس وزن بعض الفصائل أو فعلها أو إمكاناتها الحقيقية على الأرض. لذلك، ما زلنا نأمل بأن تعي جميع القيادات السياسية والمقاومة في غزة خطورة تضارب الخطاب أو عشوائية السلوك في التعامل مع انتهاكات الاحتلال، فاستهداف غزة لا زال في بدايته، ولا يحسن استنفاذ كل أوراق القوة المتاحة للمقاومة دفعة واحدة سواء على صعيد الخطاب أم الممارسة، وما زال ردّ الحرب أولى من جلبها في ظلّ الواقع الحالي للمحيط العربي. نقول ذلك مع إدراكنا التام أن كرة اللهب يمكن أن تتدحرج بأسرع مما تقتضيه الحسابات البشرية العقلانية، وبأن جبهات عدة قد تشتعل في وقت واحد وبصورة قد تفاجئ الجميع، حتى من يضمرون الشرّ للمقاومة أو لإرادة شعوبهم، فبوادر التغيير المتسارع غير المبالي بالحسابات السياسية ظهرت مطلع هذا العام، وما زالت تتفاعل في أكثر من مكان. لكن ذلك لا يمنع التصعيد المدروس لمن يملكه، ولمن ينظر إلى الأفق المبشّر بغدٍ عربي مختلف، لن تلبث تجلياته أن تنعكس بشكل مباشر لصالح القضية الفلسطينية ومشروعها المقاوم.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.