ما من معاهدات سلام عاشت إلى الأبد، سواء كان السبب تقليدياً وهو عدم التزام طرف ما بما تم الإتفاق عليه، أو لأن خللاً طرأ على موازين القوى بحيث أعاد أحد الأطراف النظر في خسائره وما اضطر إلى القبول به بعد هزيمة أو حرب غير متكافئة . ومعاهدة "كامب ديفيد" لم تحدث بعد هزيمة عام ،1967 وتلك إحدى مفارقاتها التاريخية، فقد حدثت بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973 بخمسة أعوام، وبعد انتصار عسكري مصري رغم أنه بقي مشوباً بثغرة "الدفرسوار" التي علّق عليها بعض الاستراتيجيين قائلين :"إنها كانت ثغرة سياسية أيضاً وليست عسكرية فقط، لأنها استخدمت في طرق بوابات السلام الموصدة بين (تل أبيب) والقاهرة" . لقد احتلت سيناء أكثر من مرة، لكنها عادت بالتفاوض وضمن اتفاقية كانت الأولى من نوعها، والتي وضعت حداً للصراع بين مصر والدولة العبرية ولو إلى حين، ذلك أن بنود اتفاقيات من هذا الطراز تبقى عرضة للتأويل وربما للتقويل، إذا تهيأت الظروف المناسبة ومنها استمرار الخلل في موازين القوة، والتفاوت العسكري، إضافة إلى ما يطرأ في البلدان التي تشارك بمثل هذه الإتفاقيات من أزمات اقتصادية واجتماعية تحول دون إعادة النظر في المتفق عليه، لأن الأوضاع المحلية لا تسمح بذلك . لكن كل صبر له حدود، والمصريون الذين شيدوا واحدة من أعظم عجائب الكون عرف عنهم الصبر، لكنه ما إن يفيض عن الإحتمال ويطفح الكيل حتى يتحول إلى انفجار زلزالي . وفي كل المرات التي حدث فيها تغيير جذري أو شبه جذري في مصر كانت الرهانات تجمع على أن تغيير الحال من المحال، لهذا كتب أحد المعلقين الفرنسيين بعد مظاهرات عيد الشرطة:" إن ذلك النهار ما إن تغرب شمسه حتى يصبح مجرد يوم آخر ". وما حدث خيّب ظن المعلق الذي لم يقرأ ما بين السطور وما بين الدموع، إذ سرعان ما قلبت المائدة بما وبمن عليها . ما يقال عن سيناء كثير جداً، وأكثره يشكّك في حريتها الكاملة واستردادها غير المشروط حتى في الأوساط السياسية المصرية . لهذا جاءت المناسبة الأخيرة وهي قتل ضابط مصري وأربعة من الشرطة الحدودية، بمرتبة اختبار لمدى تعلق مصر بسينائها، فالمصريون الذين خرجوا إلى الشوارع وطالبوا بتنكيس العلم الصهيوني في سماء القاهرة، إضافة إلى طرد السفير، كانت شعاراتهم تحتضن سيناء، وتعزز مصريتها وعروبتها، ومنهم من توجه باللوم إلى الجيش، لأن من استشهدوا لم يسقطوا في غرف نومهم أو في حادثة باص أو باخرة . نذكر مثلاً أن هناك من المجندين اليهود من كتبوا يوميات عن سيناء أثناء احتلالها أو بعد الرحيل عنها، ومن تلك اليوميات ما كتبته "يائيل دايان" الروائية وعضوة الكنيست وابنة الجنرال "موشي دايان" " سيناء كما رآها هؤلاء مبلل رملها وحتى ماؤها بلعاب صهيوني، وكأن استعادة مصر لها من خلال معاهدة سلام أشبه بعقد استئجار يمتد إلى مئة أو ألف عام ". ما صدر عن الجيش المصري الآن ومن خلال مجلسه العسكري لا يهدّد بإعادة النظر "بكامب ديفيد"، لكنه يذكّر الطرف الآخر المعتدي بأن المعاهدات ليست أبدية أو ذات بوليصات تأمين تاريخية، ذلك أن الإعتداء السافر على الجيش المصري وداخل الحدود الإقليمية لمصر، هو بمنزلة إعلان حرب ولو على المستوى السياسي الرمزي . إن ما يقال عن مصرية وعروبة سيناء بلهجة مصرية يجب أن يقال بالعربية الفصحى وبأعلى صوت .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.