لعل أبرز ما يمكن قراءته في حراك لبنان، إعلان المنتفضين هناك سقوط نظام الطوائف الذي تبين أنه ليس قدرا، وإنما نتاج محاصصات سياسية بالدرجة الأولى استعمل فيها المذهب والطائفة في التمكين لمجموعة من الأفراد تحت شعار "تمثيلهم لطوائفهم". ويبدو واضحا في رسائل انتفاضة اللبنانيين إعلان شبابهم وشاباتهم الكفر بنظام المحاصصة القائم، ذلك الذي كرسه سياسيون فاسدون، استعملوا الطائفة والدين في التمكين لجملة من المصالح والمكتسبات على حساب مصلحة مواطني بلدهم، وحتى طائفتهم.
ما استشعره اللبنانيون ونزلوا للشارع من أجل مواجهته، هو أن الفساد عابر للطوائف، فكان حراكهم عابر كذلك للطوائف، هي انتفاضة شاركت فيها كل الطوائف: المسيحي والدرزي والسني والشيعي، ومن وقف في نفس الوقت ضدها هم سياسيون من كل الطوائف، ذلك أن سقوط نظام المحاصصة الطائفية لا يهدد المنتفضين الموحدين خلف مطالب وطنية، لكنه يعني نهاية عقود من المكاسب المصلحية لقادة قالوا إنهم يدافعون عن طوائفهم، فيما هم يتكسبون منها. وفي الوقت الذي كشف فيه لبنان عن زيف نظام المحاصصة الطائفية، كشف كذلك عن أزمة أخلاقية وسياسية ووطنية كذلك لدى تيار ما كان يسمى حتى وقت قصير بتيار "الممانعة والمقاومة"، أعني بالذات حزب الله الذي تحول منذ تورطه في سوريا إلى ميليشيا تمارس العنف وتبرر استعماله بأبشع أنواعه في سبيل تحقيق أهداف سياسية.
السيد حسن نصر الله الذي امتدح سابقا انتفاضة البحرين، ورأى فيها ثورة للمظلومين، تحول في سوريا ولبنان إلى قاتل بالوكالة دفاعا عن نظم فاسدة مستبدة، في سوريا قتل الدمشقيين والحمصيين والدرعاويين وإخوانهم في الوطن "دفاعا عن الحسين"، وفي لبنان طاردت ميليشياته المظلومين المنتفضين في الشوارع، واعتدت عليهم، بل ورفعت السلاح في وجههم، بعد أن تحولت بندقيته بدرجة ١٨٠ تجاه بيروت ودمشق، بدلا من حيفا وما بعد حيفا!
وفي فهم أسباب الحراك، صحيح أن أسباب الانتفاضة في لبنان تعود لحنق شعبي على زيادة الرسوم على تطبيق "واتساب"، إلا أن هذه كانت فقط بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس وفجرت غضبا مكنونا في النفوس اللبنانية منذ عقود، وكشفت عن تعقيدات ومشاكل بنيوية في شكل النظام السياسي القائم، والذي جاء عقب تسويات إقليمية ودولية، لم يكن للبنانيين اليد العليا فيها، ولا الكلمة الأخيرة، وإنما ولد النظام القائم حاليا من رحم تفاهمات أعقبت اتفاق الطائف، الذي قدم فيه لبنان للنظام السوري على طبق من ذهب، برعاية سعودية أمريكية، وفي سبيل إنهاء الحرب الأهلية الطاحنة في البلاد، وعبور تلك الحقبة السوداء قبل اللبنانيون مخرجات ذلك الاتفاق وتحملوا عقودا من طغيان النظام السوري، وعربدة السعودية عبر نفوذها في الداخل، وراقبوا كيف كان يتخذ القرار السياسي لبلادهم في دمشق والرياض وطهران وباريس وواشنطن، دون المرور ببيروت، صبروا سنين مستحضرين فوبيا الحرب الأهلية وخشيتهم من تكرار حدوثها، متقين نيران الطائفية، والاحتراب الأهلي، لكنهم قرروا في 17 أكتوبر أن الطائفية هي أصل الفساد، وأن إسقاطها هو الشرط الأول في اصلاح الاقتصاد والسياسة وتحقيق مصالح العباد، لذلك راهنوا على الوعي الجمعي لشبابهم وشاباتهم، وكانت انتفاضة شعبية جامعة وموحدة فاجأت سياسييهم الطائفيين وأجبرتهم على الإذعان.
وفي دراسةٍ لمنظمة أوكسفام، صدرت مطلع العام الجاري تبين أن سبعة أثرياء لبنانيين يملكون ثروة شخصية إجمالية تبلغ 13.3 مليار دولار؛ أي عشرة أضعاف ما يملكه نصف الشعب اللبناني. كما يملك 1% من اللبنانيين ثروة تزيد عمّا يملكه 58% من اللبنانيين. ألا تبدو هذه الأرقام كافية للتأكيد على مفاسد النظم الطائفية؟ ولو أردنا مثالا آخر لندلل على هذا الاستنتاج، نلتفت فقط لما وصل له نظام المحاصصة في العراق بالبلاد حيث يقول البنك الدولي أن 13 مليون فيه فقراء وبحاجة للمساعدات، هذا البلد ذاته اختفى فيه في العهد الجديد بعد سقوط نظام صدام حسين قرابة 450 مليار دولار وفقا لتقارير رسمية، بلد يبلغ حجم احتياطي النفط فيه 112 مليار برميل يعيش مواطنوه فقراء، بلد تحول فيه "العهد الجديد" من ثورة على استبداد البعث، لنظام محاصصة مستبد باسم مكافحة البعث! يمكننا القول باطمئنان أن انتفاضتي بغداد وبيروت هي استفتاء على فشل نظم الحكم الطائفية في العراق ولبنان، وإعلان ميثاق جديد يكتبه شباب البلدان، أول كلمة فيه "دولة المواطنة" لا المحاصصة.