عادت أزمة صناعة السيارات الألمانية إلى الواجهة مع إعلان "آودي" و "بي ام دبليو" و "دايملر التي تنتج مرسيدس" عن عزمها تسريح آلاف العاملين لديها خلال السنوات القليلة القادمة.
وذكرت شركة آودي أنها ستستغني لوحدها عن أكثر من 7500 عامل. يأتي ذلك في وقت يشهد فيه الاقتصاد الألماني تراجعا طفيفا في معدلات النمو مع آفاق مستقبلية لا تبدو وردية على هذا الصعيد. ومن أبرز أسباب ذلك البريكست وحرب الرسوم والقيود الجمركية بين واشنطن من جهة والصين والاتحاد الأوروبي وجهات أخرى من جهة أخرى.
وهو الأمر الذي يأتي بتبعات سلبية غير مسبوقة على صناعة السيارات الألمانية التي تعد قاطرة الاقتصاد الألماني. وتعكس هذه التبعات اعتمادها على التصدير إلى الأسواق الأمريكية والبريطانية والصينية بالدرجة الأولى.
ومن جملة ما يعنيه ذلك ازدياد المخاوف على مستقبل هذه الصناعة التي تلاحقها الفضائح أيضا منذ عام 2015 على ضوء الغش والتلاعب في برامج وأجهزة قياس الانبعاثات الغازية السامة من سيارات تنتجها فولكسفاغن ومرسيدس وغيرها.
قاطرة للاقتصاد الألماني
عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد الألماني فإن أول ما يتبادر إلى الذهن بأنه يستمد قوته من مكانة وازدهار صناعة السيارات.
هذه الصناعة التي تتربع على قمتها فولكسفاغن ومرسيدس وبي ام دبليو شكلت منذ ستينات القرن الماضي أهم قطاعات الاقتصاد. في عام 2018 على سبيل المثال بلغت حصة صناعة السيارات ومكوناتها 16.5 بالمائة من مجمل الصادرات الألمانية بقيمة 1318 مليار يورو حسب "مؤسسة التجارة والاستثمار الألمانية".
ويساهم قطاع السيارات ومكوناته بنحو 8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الذي يزيد على 3400 مليار يورو.
أما عدد عدد العاملين والموظفين في مصانع السيارات الألمانية فيصل إلى نحو 840 ألف شخص. ويقدر اتحاد صناعة السيارات الألمانية بأن 14 بالمائة من الوظائف وأماكن العمل في ألمانيا مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بصناعة السيارات ومكوناتها وخدماتها.
على ضوء ذلك لا يستطيع الكثيرون تصور اقتصاد ألماني مزدهر بدون سيارات ألمانية تجوب مختلف شوارع وأزقة دول العالم. وتعد الأسواق العربية من الأسواق التي تتعامل مع السيارة الألمانية كأيقونة نادرة لا منافس لها.
أزمة بأوجه متعددة
ومن أبرز أوجهها تراجع السمعة والأعباء المالية المتمثلة بغرامات مالية ضخمة بعد الكشف عن فضيحة تلاعبها بقياس وبرامج قياس الانبعاثات الغازية لعدد من ماركاتها، لاسيما المباعة منها في السوق الأمريكية.
كما تعاني من العوائق التي تواجه التجارة البينية والعالمية بسبب الرسوم والعوائق الجمركية التي بدأ بها الرئيس ترامب.
أما تبعات ذلك فتظهر على سبيل الثمال في تراجع المبيعات بنسبة تزيد على 2 بالمائة خلال العام الماضي 2018.
غير أن التحدي الأكبر الذي يوجه صناعة السيارات الألمانية خلال السنوات القادمة يكمن مدى قدرتها عن اللحاق بركب التقدم التكنولوجي في مجال إنتاج السيارات الكهربائية والبطاريات والمكونات الأخرى اللازمة لها مقارنة بشركات أخرى منافسة مثل تيسلا الأمريكية وتويوتا اليابانية أو بايتون الصينية.
كما أن منافسيها يتمتعون بشراكات أقوى مع "غوغل" و"ابل" والشركات الأخرى التي تدمج عالم الانترنت بالسيارات الحديثة وتقدم خدمات بيعها والترويج لها.
الأسواق العربية والآسيوية لا تكفي
يظهر تراجع مبيعات السيارات الألمانية بشكل أساسي في أسواق رئيسية للسيارات الألمانية كالسوقين الأمريكية والبريطانية حيث تراوح التراجع هناك بين 5 و 15 بالمائة خلال العام الماضي .أما في الأسواق الأخرى ومن ضمنها الأسواق العربية والإفريقية فليس هناك ما يشير إلى تراجع كهذا.
على العكس يرجح الخبراء زيادة في المبيعات هناك بسبب ضعف المعايير البيئية في أسواقها مقارنة بالأسواق الأوروبية والأمريكية. في هذا السياق يجري الحديث عن دخول آلاف السيارات الألمانية التي تطلق انبعاثات غازية أعلى من المسموح بها في أوروبا والولايات المتحدة إلى دول عربية وأفريقية مثل لبنان والمغرب عبر بولندا ودول أخرى.
كما أن ازدهار سوق السيارات الألمانية حافظ على مكانته في السوق الصينية وأسواق آسيوية أخرى. غير أن ذلك لا يعفي صناعات السيارات الألمانية من ضرورة العمل على مواجهة المنافسين الجدد الذين يسعون للهيمنة على السوق العالمية خلال السنوات القادمة.
شروط عدة لتجاوز الأزمة
مؤخرا اقامت أكثر من شركة ألمانية في قطاع السيارات بتخصيص أموال كبيرة للاسثتمار في تطوير السيارات الكهربائية وبطارياتها ومكوناتها الأخرى. بي ام دبليو مثلا أعلنت مؤخرا عن تخصيص 200 مليون يورو من أجل إقامة مركز أبحاث وتطوير خاص ببطاريات السيارات الكهربائية.
وخصصت دايملر 20 مليار يورو لخطط أوسع تشمل تطوير خلايا البطاريات وهياكل السيارة. وبدورها خصصت فولكسفاغن ضعف المبلغ لخطط مماثلة.
ورغم تأخرها في القيام بذلك، فإن أمام غالبية شركات صناعة السيارات الألمانية فرصة لسد ثغرة التأخر في تطوير تكنولوجيات السيارات الكهربائية.
غير أن ذلك مرتبط بمدى جديتها إزاء عدم تكرار فضائح الماضي. كما أنه مرتبط بمدى قيام الحكومة الألمانية بواجباتها الخاصة المتعلقة بتطوير البنية التحتية الحاضنة للنجاح.
ومما يعنيه ذلك دعم البحوث وإقامة شبكة اتصالات وانترنت بتقنية الجيل الخامس وما بعده، إضافة إلى الإسراع في تطوير البنية التحتية في مجالات تقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي التي قطعت فيها بلدان منافسة كالصين أشواطا أبعد من ألمانيا في أكثر من مجال.