إن حالة الصحوة الإسلامية من المواضيع التي يكتنفها الكثير من الاختلاف والغموض، وهذه الدراسة جهد متواضع، أرجو أن تكون لبنه تضاف إلى الجهود السابقة التي بذلها أهل العلم في هذا الاتجاه. وسأتناول هذا الموضوع من خلال المحاور الخمسة التالية: السيرة النبوية الشريفة، والعناصر الغائبة، ونظرية التعويض، وخطوط التعويض في البناء الحضاري، ومراحل الشمولية في الإحياء والنهضة والتجديد.
أولاً: السيرة النبوية الشريفة
(التجربة التطبيقية الأولى للإسلام)
..ونعني بها طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونهجه في تنزيل الإسلام على واقع العرب في الجاهلية، والتي انتهت إلى تنحية الجاهلية، وإحلال الإسلام بديلاً لها.
وعندما يُلِحُ طموح هذه الأمة - في أيامنا - إلى ضرورة بناء (سيرة جديدة للإسلام) على نهج السيرة النبوية الأولى، وحتى تعود الأمة إلى دورها في
الحياة من جديد، لابد أن تستنير بالسيرة الأُم، فتأخذ منها الدروس بمنهجية نبوية سليمة.
وأظن أن استخراج الدروس والمسارات العلمية والتطبيقية للإسلام، لن يكون مجدياً، من خلال النظرة التاريخية القصصية للسيرة الشريفة، لان النظر إلى سيرته - صلى الله عليه وسلم- من خلال أنها مجموعة من القصص الجميلة نعلمها للصغار والكبار، مفيد في التأثير التربوي العام.
ولكنه نهج لا يصف المسار العلمي، لتنزيل الإسلام على واقع الحياة، وتحويله إلى واقع ملموس في حياة المجتمع.
إِنَّ المطلوب هو استخراج (علم تنزيل الإسلام على الواقع) من خلال دروس التجربة الأولى لتطبيق الإسلام، لينير لنا طريق (السيرة الجديدة) التي نطمح إلى بناء نموذجٍ لها في واقعنا المعاصر.
ومن أراد أن يُخرج الصحوة الإسلامية من حالة العجز والتخبط، الذي تعيشه - في هذه الأيام - عليه أن يعود إلى السيرة النبوية، ليستخرج منها علوم الفهم والتطبيق، من خلال التحليل العلمي الدقيق لمركبها التكويني.
وبذلك يكشف للدعاة، طريق الصحوة، وطريق النهضة، التي توصل إلى البناء الحضاري المتميز، ويريحهم من عناء الفوضى، لأنه يأخذ بيدهم إلى مسارات علمية موصوفة الخطوات، ودون خداع من نفس أو إغراء من هوى.
وكذلك يجب أن نتخلص من أساليب إجبار السيرة، وَلَي عنقها لتشهد عنوة، بصدق سلوك معين لدى فئة، أو تنظيم، أو جماعة ما، باقتطاع أو مثال يوضع في غير موضعه.
لأَننا - بذلك - نقع في الهوى ونُخضع علم السيرة لأَنفسنا، مع أننا -في الأصل - يجب أن نخضع أنفسنا، لمعطيات علم السيرة ونتعلمها كما تريد، لا كما نريد.
لقد بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيلاً متميزاً من الصحابة استطاع أن يحمل مسؤولية التغيير الذي أَراده الإسلام، حتى وُصف ذلك الجيل بأنهم (قرائين تدب على الأرض) وكان التطبيق محمياً بالإشراف المستمر للوحي، على تلك التجربة والتصحيح المستمر لمسارها، والأخذ بيدها نحو الأهداف، التي يريدها الله سبحانه وتعالى منها.
وكان المشرف البشري على تنفيذ التجربة، هو شخص الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يلاحظها، ويستنهض الهمم نحو الأهداف، ويسبق الجميع للعمل، ويرشد المنقطع عن الصواب، حتى يوصله بالركب العامل من المؤمنين. وكان الصحابة - رضي الله عنهم- فريقاً منسجماً من بُناة الحضارة، يحرص كل واحد منهم ألا يؤتين من قِبله، إلى ثغرة وضع عليها، لأن تقوى الله صمام أمان، تمنع النفوس من الزلل أو التخاذل في العمل.
فإذا أردنا أن نتعرف على مكونات وعناصر السيرة في مركبها التاريخي وملابساتها المتعددة وجدنا أنها تتكون مما يلي:
1- المصدر: الوحي المُبَلِغُ عن الله سبحانه وتعالى، إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن الكريم، وتنجيم القرآن الكريم حسب الأحداث، وأسباب النزول لحكمة أرادها لله سبحانه وتعالى، وهي تصحيح الأخطاء في الفهم والتطبيق والعمل، حتى لا تتراكم الأخطاء والانحرافات في ثنايا التطبيق فتؤدي إلى فساد البناء.
2- الرسول المبلغ: وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - بتاريخه الشخصي الناصع النقاء قبل البعثة، وبأعماله وممارساته بعد البعثة، وما رافقها من سنته الشريفة من قول (لحديث) أو (فعل) أو (تقرير) لأعمال الصحابة وأقوالهم، ودوره القيادي الذي لا ينطق فيه عن الهوى.
3- الصحابة الكرام: جيل التطبيق وحملة الإسلام -رضي الله عنهم - وهم جيل لم يخضع لمألوف الآباء والأجداد، ولم تتراكم هذه الألفة على قلوبهم، كما تراكمت على قلوب أبناء الجاهلية.
فبعض الناس لا يستطيع أن يخرج عن مألوفه، لأنه مملوك لذلك المألوف، ولا يؤمن بالفكرة الصحيحة، التي تولد من وراء هذا المألوف، إلا إذا استطاعت هذه الفكرة أن تهدم مألوفه تهديماً كاملاً، عندها قد يقترب من هذه الفكرة الصحيحة الجديدة في حذر ودهشة. ولكن الفئة الأولى من الصحابة في مكة المكرمة، والتي استجابت لله ورسوله، لم تكن ممن يحافظ على مألوفه، بل كانت من أصحاب العقول المنفتحة على تعلم الحق، لا تقدس مألوف الآباء والأجداد ولا تخضع لضغط الواقع وتفكيره، فلما رأت فكرة الحق أمام عينها، عرفتها فانحازت لها وتحملت مسؤولية هذا الانحياز، بصبر وثبات، لأنها آمنت عن قناعة واختيار.
هذا الجيل من الصحابة الكرام، صبر على تكاليف العقيدة، وما يحيط بها من عداوة المجتمع، وصقلته الشدة، عُذب، وحوصر، وطورد، وتشرد، فأَدرك حقه في حرية الاعتقاد، وعرف انه بصبره على مشاق الطريق يفتح المجال أمام الإسلام، لينمو وينمو، وبنمو الإسلام تتهدم الجاهلية وتنكشف عوراتها ومثالبها أمام العيون، وبصبره يُحَوِل الإسلام إلى بناء منافس للجاهلية، محسوس النموذج، يساعد البصائر المغلقة على إدراك بنيانه، ويفرض عليها حالة من المقارنة والاكتشاف والمفاضلة، بين النموذج الإسلامي الوليد وبين جاهلية الآباء. وبذلك يعمق توجيه المجتمع المكي نحو الانحياز إلى إحدى، الظاهرتين: الجاهلية أو الإسلام. وكلما خرج واحد من الجاهلية ترك وراءه انهداماً في البناء يكشف ضعفها وهوانها، وبانضمامه إلى بنيان الإسلام، يعلو بناء الإسلام شامخاً، يغري النفوس بالنظر إليه والاندفاع نحوه برغبة جامحة.
4- العرب (المادة الأولية للدعوة): وهم حقل الدعوة، وبستان تجاربها، كانوا أُمة موحدة لله تعالى، على دين سيدنا إسماعيل عليه السلام عايشت ظروفاً حرفتها عن التوحيد إلى الوثنية وبقي في داخلها حنين وانتماء لإسماعيل عليه السلام، تغلفه قشرة هشة من الوثنية، والجاهلية المألوفة، يحملون كثيراً من الصفات الفردية الإيجابية، في القيم والأخلاق والبيان، سيطرت عليهم حالة الألفة للواقع، إلى حد جعلهم يدافعون عن هذا المألوف، وربما كان هذا الأمر سبباً من أسباب معاداتهم للإسلام، ذلك الدين القيم، الذي جاء ليهز مألوفهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، بعد تحريرهم من العبودية لهذا المألوف.
5- الحالة الحضارية المجاورة: حضارة الروم وحضارة الفرس، وحضارة الهند، حضارات شاخت وقاربت على الانتهاء، تقدم مادي وخواء في القيم والأخلاق والمعتقدات.
6- الحالة التنفيذية (الخطوط العريضة):
1- المراحل: المكية والمدنية 2- الأولويات - العقيدة أولاً والتكليف ثانياً 3- مجموعة كبيرة من الظروف والمتغيرات والتطبيقات 4- السرية والعلنية 5- التصحيح المستمر من الوحي والنبي.