ظلت مدة الرضاعة محل جدل لعقود طويلة، إذ تدعم بعض الثقافات إرضاع الصغار أكثر من عامين، بينما تلجأ ثقافات أخرى إلى تقليص فترة الرضاعة الطبيعية لفوائد عدة.
فقد ذكرت عالمة آثار بريطانية أن المؤرخين على مر العصور درجوا على دراسة التغيرات التي طرأت على السكان في المجتمعات القديمة، إلا أن اهتمامهم انصب على رصد الأحداث والنشاطات التي هيمن عليها الذكور مثل الحروب والسياسة وجمع الأموال.
لكن ثمة جانبا آخر من الماضي لم ينتبه إليه أحد، ألا وهو تأريخ الرضاعة الطبيعية، حسبما أفادت الباحثة في جامعة بورنموث البريطانية كريستينا ستانتيس في مقالها بموقع "ذا كونفرسيشن" الإلكتروني.
تقول ستانتيس -وهي باحثة في علوم الآثار ودراسة الأجناس البشرية (الإنثروبولوجيا)- إنها أخضعت هي وزميل لها بجامعة وارسو للدراسة نمط الرضاعة الطبيعية الذي كان متبعا في بعض مدن العالم القديم، وتحديدا في أجزاء من سوريا ولبنان.
وتضيف أنهما أجريا تحليلا لقطع عظام صغيرة لأطفال رضع وصبية وأمهات مدفونة في مقابر من العصر البرونزي ما بين عامي 2800 ق.م و1200 ق.م، حيث استخدما تقنية تعرف باسم تحليل النظائر المستقرة.
وكشفت الدراسة أن النساء كن على ما يبدو يرضعن أطفالهن رضاعة طبيعية حتى عمر ستة شهور، ثم يتوقفن تماما عن الإرضاع عكس ما كان شائعا في حضارات أخرى حيث كان الإرضاع يستمر إلى سن عامين ونصف العام.
وتشير ستانتيس إلى أن المواقع التي نقبت عنها هي وزميلها الباحث كانت مراكز حضرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط وبين نهري دجلة والفرات في ما كان يعرف ببلاد ما بين النهرين.
وعادة ما تكون عظام الأطفال التي يعثر عليها علماء الآثار أكثر هشاشة من عظام البالغين لأنها تكون أصغر حجما وتقل فيها المواد غير العضوية مثل الكالسيوم.
[توصي منظمة الصحة بإرضاع الطفل لمدة ١٨٠ يوما دون إدخال أي عناصر غذائية أخرى (وكالة الأنباء الألمانية)]
(وكالة الأنباء الألمانية)
توصيات علمية
ويتضح من عمليات التنقيب أن النساء في تلك المراكز الحضرية كن يرضعن أطفالهن رضاعة طبيعية صرفة إلى أن يبلغوا الستة شهور، وهو ما ينسجم مع توصيات منظمة الصحة العالمية لتغذية الرضع، إذ توصي المنظمة بضرورة إرضاع الصغار 180 يوما كاملا بحليب الأم الطبيعي دون إدخال أي عنصر غذائي آخر، ثم يمكن بعدها إدخال الأطعمة المناسبة للطفل إلى جانب الرضاعة الطبيعية.
ومع أن أطعمة أخرى تدخل في التغذية بعد الستة شهور، فإن الفطام التام يكون في حوالي العام ونصف العام.
إن الرضاعة الطبيعية حتى سن العامين ونصف العام قد تبدو مدة طويلة لدى معظم الثقافات المعاصرة، لكنها أقصر مما كان متبعا في العديد من المجتمعات القديمة، حسبما كشفت الدراسات التي أجراها علماء الآثار.
كما أن الرضاعة الطبيعية لمدة أطول يعني المباعدة بين الولادات، وهو ما اعتبر عاملا رئيسيا في تنظيم الخصوبة في المجتمعات البدائية التي كانت تعتاش على الصيد وجمع الغذاء النباتي حيث كان إرضاع الطفل رضاعة طبيعية حتى سن خمسة أعوام وأكثر هو العادة السائدة آنذاك.
إن فترات الرضاعة الطبيعية الأقصر التي أظهرتها نتائج الدراسة التي نحن بصددها، ربما ساهمت في زيادة عدد سكان المدن في سوريا ولبنان القديمتين.
وقد يكون السبب في ذلك أيضا أن القدماء كانوا يجمعون الحبوب كالقمح والشعير ويحصلون على منتجات الألبان مثل الزبادي والتي يسهل إطعامها للأطفال باعتبارها مكملات غذائية.