كان الهدف من هذه المقدمة، التي تكلمنا فيها عن نظرية التعويض ومراحلها، هو التمهيد لأهمية النظر في استخراج علوم الحضارة الإسلامية، واثر هذه النظريات في تبصير مناهج العمل الإسلامي، في الواقع التطبيقي، لان الفكر والنظر يسبق الحركة ويهدي خطواتها، ويحميها من العشوائية والتخبط.
وإذا أردنا أن ننفذ هذه المنهجية، للاستفادة منها في ميدان " نظرية الأدب الإسلامي " على وجه العموم وفي " نظرية الشعر الإسلامي " على وجه الخصوص، ومن خلال علاقتها مع خريطة الإسلام الكاملة، فانه يجب علينا أن نضع مساراً للتنفيذ على الشكل التالي:
1- انطلاقاً من قوله تعالى وتؤمنون بالكتاب كله آل عمران:119 فلا بد من التعامل مع النصوص الشرعية لقضية الأدب والشعر دون إهمال، لشاردة ولا واردة، لان منهجية الانتقاء بقصد أَو بغير قصد مرفوضة شرعاً في التعامل مع كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام.
2- لا بد من تحديد شواهد النظرية الأدبية في الإسلام من خلال مصادرها الشرعية، بعقلية تجمع بين المرونة والخبرة العلمية المتخصصة، والخضوع لمعطيات هذه النصوص، دون أدنى تهرب، ثم إدراك العلاقة المتشابكة بين جميع النظريات الإسلامية، وارتباطها العميق مع العقيدة والشريعة ونظام الحياة في المفهوم الإسلامي.
3- تتبع مقاصد هذه النصوص في علوم التفسير والسنة والسيرة وتخليصها من حالة التفسير الموضعي، ونقلها إلى مرحلة النظرية المتكاملة، التي تضع جميع الشواهد في مواضعها من خريطة النظرية، واستقراء هذه الشواهد لتحديد الخاص والعام والحلال والحرام والمكروه والمندوب، والاستثناء، والخروج بفكرة واضحة التصور ونظرية مترابطة، تبتعد عن أسلوب طرح الشواهد والتهرب من استخراج " الفقه النقدي " كما فعل العلماء القدامى، حيث كان العالم يكتفي بذكر الآيات "، أو يذكر جميعها، ولكنه يكتفي بالدوران حول " أسباب النزول " للآيات أو " أسباب الورود " للأحاديث، دون أن يعطي علماً يوضح ويضيء طريق الأدب الإسلامي.
ولذلك وقع العلماء في عصر الدولة العباسية فريسة للتأثر بنظريات النقد والشعر لأرسطو وغيره، والسبب في ذلك عائد - فيما أظن - إلى غياب " التنظير الفقهي " في قضية الأدب، والتهرب من الخوض فيها، فكانت النتيجة فراغاً وضعفاً في النظريات الأدبية عند المسلمين، مما جعلهم هدفاً لغزو الثقافات المغايرة لدينهم، كالثقافة اليونانية والإغريقية.
4- تتبع جهد المحاولات الإسلامية المعاصرة في البحث عن " نظرية الأدب الإسلامي " لمعرفة هذه المحاولات، وتقييمها، وعرض جهودها على المقاييس السابقة: العقيدية والنظرية والتطبيقية والعلمية والثابت والمتغير والوثائق الخمس، من اجل تصويب وتصحيح الفهم والتطبيق بحثاً عن المسار العلمي، الذي يؤكد قضية النظرية والتأصيل الشرعي، والخضوع له من اجل هداية العمل، وتأكيداً لقدرة هذا الدين وصلاحه في إثبات الخير في كل زمان ومكان، إذا تخلى أهله عن العجز والكسل والفوضى في العمل.
5- لابد " للفقيه الأدبي " الذي يتصدى لقضية التنظير في " نظرية الأدب الإسلامي " أن يجمع في علمه وخبرته بين أمرين مهمين حتى يكون التنظير جامعاً لصفتي " الإسلامية " "والعلمية " وهما:
1- الأمر الأول: العلم العميق بشواهد النظريات التي تخص الأدب في القرآن الكريم وجمع الآيات التي تخص اللغة، والبيان، والشعر والكلمة وخطرها، وحكم الإسلام فيها، ثم ما يخص هذه المواضيع من السنة الشريفة (الأحاديث) أو (التقرير) لأدب الصحابة وآراء علماء التفسير في ذلك.
2- الأمر الثاني: إتقان علوم الأدب وفنونه، من حيث العلم العميق بتاريخ الأدب العربي وعصوره والأنواع الأدبية، والمدارس الفنية التي سادت فيه والمؤثرات الداخلية والخارجية، التي آثرت في الإنتاج الأدبي، بالإضافة إلى التمرس بفقه اللغة العربية وعلومها، حتى يكون في منهجه مُلماً بالجوانب العلمية لأهل الصنعة الأدبية والمنهجية الفقهية وبذلك يكون مؤهلاً من الجانبين " التخصصي والشرعي " للتنظير لهذا الفن.