كأنها لحظات من خيال تلك الأحداث التي تسارعت على جبهة المشهد الليبي منذ بداية شهر رمضان، حتى تمخضت عن جنين الثورة المباركة، منهية واحداً من أبرز أنظمة الانحطاط العربي والذي كان مثالاً لكل نقيصة وسلبية، وكان مجرد الحلم بزواله يعدّ ضرباً من الهذيان! مع الليبيين عشنا لحظات سعادة كبيرة ونحن على موائد الإفطار نتابع تقدّمهم باتجاه باب العزيزية، وإسقاطهم أسطورة الظلم والعنجهية والتفرّد والحكم المطلق، وكانت بهجتهم الغامرة تبعث فينا يقيناً متجدداً بأن الظلم زائل لا محالة، وأن الحرية دائماً قاب قوسين أو أدنى من النفوس المتعطشة لها إن توفّرت الإرادة وتدفق العزم في القلوب، واكتمل الاستعداد للتضحية. الشقّ الثاني للمشهد الحاضر في الاهتمام كان في الشام، حيث يغلب الألم اللامحدود ثغرات الأمل المنبعثة من حرارة الدم السخي، ومن إصرار الشعب السوري على المضي في مسيرة الانعتاق رغم اشتداد قبضة البطش والإرهاب، ورغم فصول الإجرام واستباحة كرامة الإنسان التي ظللنا نشاهدها طوال خمسة أشهر، وظلّت معها مسيرة الحرية ماضية، رغم تنكّر حكام دمشق لنواميس الكون واعتقادهم الجازم بأن حزبهم الشمولي القمعي قدر سوريا أرضاً وشعبا، وأن قوانين حكمهم فوق الكرامة، وفوق الحق في الحرية، بل وفوق سنن التاريخ التي لم تخلّد أي نظام أو حاكم في مكانه حتى لو كان قائماً بالقسط، فما بالكم حين يكون قمعياً وظالماً وهاتكاً للحرمات. كانت تطورات ثورة ليبيا ونزوعها للسلاح الفزاعة التي استخدمها كثيرون للفتّ عن عضد باقي الثورات العربية وخصوصاً السوريّة، وظلّ التخويف ملازماً خطاب من كان يخوّف السوريين تارة من حرب أهلية وتارة من التدخل الأجنبي وتارة من السيطرة على مقدرات البلد وإرادته من قبل قوى خارجية، وكأن ليبيا في عهد القذافي كانت مقدراتها تصبّ في جيب شعبها، أو كأنها كانت حرّة القرار والإرادة، وقس الأمر ذاته على سوريا مع بعض الاختلافات التي أوجبها موقع سوريا وطبيعة تحالفاتها الإقليمية. غير أن الحقيقة التي لا يجوز أن يماري فيها أحد هي أن أي نظام معادٍ لشعبه، ومنكر لكرامته، وغير مبالٍ بدمه وحرماته في سبيل التمكين لسلطانه لا يمكن أن يكون خيّراً لغيره، ولا مؤهلاً لحمل همّ قضايا كبرى للأمة، لأن القرار الحرّ لا يمكن أن يتعايش مع القمع والكبت وكتم الأنفاس، ولا أن يستوعب الدوس على جميع القيم الأخلاقية، وامتهان الكذب والتلفيق هروباً من لحظة الحقيقة، وأوان التغيير. أؤمن أن جميع الأنظمة العربية المنكّلة بشعوبها لن تتعلم الدرس من العروش المتهاوية، ولن تعتبر من نهاية السابقين من الطغاة، لأن شياطينها توسوس لها دائماً بأنها مختلفة، وأنها قادرة على إجهاض الثورات بالمزيد من الفتك والمواجهة، تماماً كما توسوس لها بأن مبادراتها البائسة حول الإصلاحات الداخلية كفيلة بترميم صورتها المتهتكة، أو استرضاء جزء من الثائرين وحملهم على التوقف للنظر في الوعود التي يعلمون جيداً أنها مكذوبة وساقطة، ولا تساوي بضع قطرات من دم سال ظلماً وعدواناً على أيدي الجزارين. نشكر ليبيا بعد تونس ومصر على إنعاش القلوب التائقة للحرية، وعلى تلك الجرعات المعنوية التي حملتها لمن لا زالت أقدامهم تتخضب بالدم كل يوم، وكل ما نرجوه الآن أن تكون ثورة البناء والإصلاح حكيمة وواعية ومتفانية، وذلك حتى لا يطول انتظار الشعوب المقهورة للحظة التحوّل الحقيقية، ولتسقط كلّ فزّاعات التخويف بالفوضى والفراغ التي يستخدمها زبانية الطغاة وأبواقهم!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.