شهدت القاهرة خلال الأيام القليلة الماضية اجتماعا غير مألوف لمجموعة من المثقفين العرب لمناقشة سبل الخروج من أزمة الأمة العربية وكيفية لملمة عقدها الذي انفرط. (1) لولا الربيع العربي ما قدموا إلى مصر التي لم تكن ترحب بهم في عصر الانكفاء، وبعضهم ظل يرد على عقبيه ولا يسمح له بالخروج من مطار القاهرة. ولولا "الربيع" لما مدوا أبصارهم إلى محيط الأمة متجاوزين حدود أقطارهم التي ظل خطاب تلك المرحلة يلح على أنها أولا وأخيرا، وما كان لهم أيضا أن يشدوا الرحال إلى القاهرة إلا بعدما تسلَّموا الرسالة التي دوت في الآفاق في العام الماضي، معلنة أن الشعوب العربية إذا كان وعيها قد غيب وتشوه إلا أنها لم تمت، وأن حلمها المؤجل لا يزال بعيدا حقا، لكنه ما عاد مستحيلا. خصوصا أن الذي وقع وقلب المعادلة رأسا على عقب كان يعد من المستحيلات عند كثيرين. في فضاء قاعة اجتماعاتهم ظلت الأسئلة الموجعة تتردد طوال الوقت. لماذا فشلت خطوات التكامل العربي، فمجلس الوحدة الاقتصادية تشكل عام 1957 (قبل نحو 65 عاما) وتزامن مع تأسيس السوق الأوروبية المشتركة، وما زلنا نقف عند نقطة الصفر في حين أنهم وسعوا من نطاق السوق وأقاموا فوقه الاتحاد الأوروبي. ويستحى المرء أن يقول إن اتفاقية الدفاع العربي المشتركة وقعت في عام 1950، بعد حرب فلسطين مباشرة، ولم يتم تفعيلها إلا بعد مضى ستين عاما، حين غزت العراق الكويت في سنة 1990، الأسوأ من ذلك أن الاتفاقية لم تر النور إلا في ظل الضوء الأمريكي الأخضر، ثم لم نر لها أثرا بعد ذلك. حتى سقطت من الذاكرة سواء حين اجتاحت إسرائيل لبنان في عام 1982 وحين احتلت الولايات المتحدة العراق في سنة 2003، الأنكى من ذلك والأتعس أن الدول العربية التي وقعت فيما بينها الاتفاقية المذكورة أصبحت تعيش تحت مظلة الحماية الأمريكية، حتى ذكر تقرير عرض على مجموعة المثقفين العرب أن الولايات المتحدة أقامت قواعد عسكرية أمريكية على أراضٍ أكثر من ثلث الأقطار العربية. (2) في اليوم الذي بدأت فيه مشاورات المثقفين العرب (الثلاثاء 2/10) كانت جماعة الحراك الجنوبي في اليمن قد دعت إلى اجتماع في عدن للمطالبة بانفصال الجنوب وانسحابه من الوحدة التي تمت مع الشمال في سنة 1990 يومذاك أيضا كانت دول الاتحاد المغاربى الخمس (تونس والمغرب والجزائر وليبيا وموريتانيا) قد انتهت من ترتيب القمة الناجحة مع الدول الأوروبية الخمس المقابلة لها (إيطاليا وفرنسا وإسبانيا ومالطة والبرتغال) ــ وهو ما يعرف بقمة 5+5. وقد أصدر رؤساء الدول العشر في أعقاب مؤتمرهم الذي عقد في مالطة بما أكد على "التراث الهائل المشترك من الثقافة والحضارة والتاريخ وتطلعات شعوب المنطقة لشراكة لتحقيق الديمقراطية والاستقرار والأمن والازدهار". أصابتني العبارة حين وقعت عليها بالغيظ والحسد. وكان تعليقي الوحيد عليها أن ما بيننا في العالم العربي (روابط الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا) أوسع وأمتن مما بين الدول المغاربية الخمس وبين نظيراتها الأوروبيات التي تقابلها على الشاطئ الآخر من البحر المتوسط. مشاهد الانفراط والانقراض التي يعانى منها العالم العربي كانت أيضا حاضرة في وعى الجميع. لم تكن بعيدة عن الأذهان، من فاجعة انفصال جنوب السودان عن شماله، إلى التشققات التي أصابت العراق حتى أصبح شماله مهيأ للانفصال لصالح الأكراد، إلى التداعيات المؤرقة التي يمكن أن تترتب على سقوط النظام السوري واحتمالات تقسيم البلد بين السنة والشيعة والأكراد، وهو ما ستكون له أصداء أخرى في لبنان والعراق والأردن على الأقل، ذلك إذا مرت التحرشات العسكرية بين سوريا وتركيا بسلام. وكذلك التهديدات الإسرائيلية الموجهة ضد إيران. ومعلوم أن اغتصاب إسرائيل لفلسطين من الإشارات المبكرة لضمور العالم العربي التي يعد احتلال الجولان من تجلياتها أيضا. كما كان مشهد انفراط العالم العربي وتشرذمه مائلا أمام الجميع، فإن فصل الخيبات الوحدوية أو التكاملية العربية لم يكن بعيدا عن الأذهان (الوحدة السورية المصرية نموذجا) و(التكامل بين مصر والسودان نموذج آخر)، بحيث لم يبق للعرب من التجارب الوحدوية سوى حالات ثلاث هي: دولة الإمارات العربية ــ بمجلس التعاون الخليجي ــ الاتحاد المغاربى. وهى لا تمثل تكاملا حقيقيا، ولكنها تختلف في درجة هشاشتها. (3) هل قدر العالم العربي أن يعيش مشتتا ومتنابذا؟ ولماذا نجحت محاولات التكامل في أوروبا وآسيا ولم تحدث في العالم العربي؟ كان رأيي ولا يزال أن العالم العربي له خصوصيات تميزه عن أي منطقة أخرى في العالم، وهذه الخصوصيات أسهمت بشكل كبير في استهدافه والعمل على إبقائه ممزقا، لأن اجتماعه أو تكامله يهدد مصالح ويقلب استراتيجيات أطراف أخرى ذات مصلحة، على الصعيدين الدولي والإقليمي. ذلك أن موقعه الاستراتيجي بين الشرق والغرب وكونه يمثل بوابة لأفريقيا، يجعله مطمعا للدول الكبرى المهيمنة. وهى ذات الدول التي تطلعت لاختراقه واحتلاله منذ القرن الثامن عشر، ثم سعت إلى اقتسامه وإعادة رسم خرائطه من خلال اتفاقية "سايكس بيكو" التي عقدت في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وإذا كان الموقع الاستراتيجي يشكل مطمعا مبكرا، فإن ظهور النفط في المنطقة العربية شكل عنصر جذب آخر دفع الدول الغربية إلى محاولة تثبيت هيمنتها عليها واعتبارها ضمن مصالحها الحيوية التي تتشبث بفكرة الحفاظ عليها والدفاع عنها. وإذا كان النفط قد ظهر في العالم العربي في ثلاثينيات القرن الماضي، فإن تأسيس دولة إسرائيل واغتصابها لفلسطين في الأربعينيات بتوافق غربي بالدرجة الأولى، أضفى وضعا استثنائيا لخصوصية العالم العربي، لا مثيل له في أي مكان آخر بالعالم. ذلك أنه لكي تبقى إسرائيل وتستمر كان لابد من إضعاف وتطويع العالم العربي الذي رفضت شعوبه جريمة الاغتصاب وحاربت لأجل صدها وإيقافها منذ اللحظات الأولى. ولأن إضعاف العالم العربي ومصر في المقدمة منها، يصب في المصلحة المباشرة لقوى الهيمنة الدولية وإسرائيل، فقد كان منطقيا ومفهوما أن تقف تلك الدول في صف معارضة أي تكامل عربي على مستوى، سياسي واقتصادي أو ثقافي، لهذا السبب أعربت الدول الغربية عن عدم رضاها عن الوحدة المصرية السورية، ولم يهدأ لها بال إلا حين تم الانفصال. ولهذا السبب تواجد الخبراء الإسرائيليون إلى جانب الملكيين الذين حاربوا الجيش المصري الذي ذهب تأييدا للثورة في اليمن، كما تواجدوا مع الجنوبيين في السودان. ووقفوا إلى جوارهم حتى انفصلوا عن حكومة الخرطوم، وهناك أكثر من دراسة إسرائيلية تحدثت عن جهود «الموساد» لتأليب الأقليات العرقية والدينية في العالم العربي (الأكراد مثلا) لتفكيكه وإضعافه. (4) هذا التحليل يظل منقوصا إذا لم نتحدث عن أزمة الداخل في العالم العربي ذلك أنه حين يعقد منذ تأسيس الجامعة العربية في عام 1945 خمس وثلاثون مؤتمرا للقمة لبحث كافة هموم الأمة العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، ثم يصبح حالنا على النحو الذي تعرفه، فمعنى ذلك انه لا توجد إرادة عربية حقيقية للتغيير أو التقدم. يعزز ذلك أن لدينا كمًّا من المجالس والاتفاقيات والمعاهدات يغطى كل صور التكامل العربي المنشود، في السياسة والأمن والثقافة والتجارة والعمالة والسياحة والإدارة والطاقة الذرية... إلخ، حين يحدث ذلك أيضا فهو يعنى أن أزمة الأمة العربية هي أزمة إرادة أيضا. بكلام آخر فإنه إذا كانت العوامل الخارجية تشكل عائقا ضد التكامل المنشود فإن عجز سلطة القرار العربي يشكل عائقا آخر لا يقل خطورة. عند هذه النقطة لا مفر من التوقف عند دور الاستبداد في إعاقة النهوض بالأمة العربية، الأمر الذي أدى إلى إضعاف المجتمعات العربية وتشويهها، وإصابتها بلعنة «فساد العمران» التي تحدث عنها ابن خلدون فى مقدمته، هذا للتشخيص دفع أحد الفلاسفة الذين اشتركوا في حوارات القاهرة الأخيرة إلى القول بأن التجربة أثبتت فشل جامعة الحكومات العربية. وأن رياح الربيع التي هبت على العالم العربي تهيئ فرصة مواتية لتأسيس ما أسماه جامعة الشعوب العربية. ورغم أن الفكرة لم تطرح للمناقشة التفصيلية، إلا أنها كانت بمثابة دعوة لإحياء دور الشعوب في تقرير المصير العربي، بعد أن ظل ذلك الدور حكرا على حكومات لم تمثلها يوما ما. إذا وسعنا دائرة النظر في مشكلات الداخل فسوف نلاحظ أن غياب الديمقراطية يمثل سببا جوهريا لها، ولكننا سنجد أن الخلافات المحتدمة بين المثقفين، خصوصا الذين يمثلون التيارين العلماني والإسلامي، تمثل عائقا آخر لا يهدد التقدم ويهدد الاستقرار فحسب، ولكنه أيضا يصرف الانتباه عن قضايا المصير التي تشكل تحديدا وجوديا للطرفين. (5) في تقديمه لمذكرات جمعية «أم القرى» التي ضمنها خلاصة حوارات مؤتمر نهضة الأمة الذي انعقد في مكة المكرمة سنة 1316هجرية ــ 1898 ميلادية كتب عبدالرحمن الكواكبى يقول: «لما كان عهدنا هذا عهدا عمّ فيه الخلل والضعف كافة المسلمين. وكان من سنن الله في خلقه أن جعل لكل شيء سببا، فلابد لهذا الخلل الطارئ والضعف النازل من أسباب ظاهرية غير سر القدر الخفي عن البحر. (لاجل ذلك) دعت الحمية بعض أفاضل العلماء والسراه والكتاب السياسيين للبحث عن أسباب ذلك، والتنقيب عن أفضل الوسائل للنهضة الإسلامية». هذا الكلام ينطبق على حوارات لقاء المثقفين العرب الذي انعقد في القاهرة، والذي كان الدافع إليه هو ذاته ما دفع الكواكبي قبل 114 عاما إلى تحرى أسباب الضعف والخلل الذي أصاب الأمة الإسلامية، وإن تشابهت في الدوافع وفى الكتمان الذي أحاط بالحوارات، وفى الحرص على تمثيل شعوب الأمة، إلا أنهما اختلفتا في كون حوارات الكواكبي تحدثت عن أحوال الأمة الإسلامية أما ما شهدته القاهرة كان موضوعه أزمة الأمة العربية. وفى حين أن الكواكبي دعا المجتمعين إلى إجراء حواراتهم «بصورة خفية في دار بأطراف مكة، استؤجرت باسم بواب داغستانى روسي، لتكون مصونة من التعرض»، فإن الاجتماعات التي عقدت بالقاهرة تمت في قاعة بأحد الفنادق، بعيدا عن أعين وسائل الإعلام وآذانها. وتمت العملية كلها بترتيب من اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لمغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (اسكوا) التي ترأسها الدكتورة ريما خلفا مساعدة الأمين العام، وتتخذ من بيروت مقرا لها. ثمة فرق آخر بين ما عرضه الكواكبي وهذا الذي قدمته، يتمثل في أن شيخنا الكبير عرض خلاصة ما تحدث به ممثلو العالم الإسلامي، في حين أن ما كتبته هو من وحى المناقشات التي أجراها المثقفون الذين جاءوا إلى القاهرة من أطراف العالم العربي. والذي تحدث به هؤلاء وهؤلاء، يظل من قبيل أجراس التنبيه التي تتردد في فضاء الأمة، وتنتظر من يستجيب إليها.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.