كشفت جائحة كورونا التي اجتاحت العالم عن هشاشة وعدم قدرة الكثير من الأنظمة الوطنية الصحية على الاستجابة الإنسانية العاجلة لإنقاذ ضحايا هذا الوباء الفتاك، وقد لاح في الأفق شبح انهيارها وعدم قدرتها على الاستجابة الطارئة حتى في بلدان متقدمة، مع تزايد الإحصاءات اليومية لأعداد المصابين والضحايا من الناس عامة الذين لا يقعون تحت طائلة القانون، وهو ما يشي بأن الأفراد المحرومين من حريتهم بموجب القانون سواء كانوا متهمين أو مدانين جنائياً أو مدنيا، أو محتجزين دون محاكمة في ظل تدابير أمنية أو سياسية، هم الأكثر عُرضة لأن يفتك بهم وباء كورونا (Covid-19).
وقد تحدثت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان بأن هذا الفيروس بدأ باجتياح السجون ومراكز الاحتجاز، في العديد من البلدان حيث تكون مرافق الاحتجاز مكتظة، وفي ظروف غير صحية، تجعل من المستحيل تحقيق التباعد الجسدي، والعزل الذاتي في مثل هذه الظروف، وأشارت منظمات دولية أخرى إلى غياب الاهتمام بصحة السجناء والمحتجزين وكرامتهم الإنسانية في سجون بعض دول المنطقة، مما يعرض بعضهم حتما لمخاطر جسيمة، وبصفة خاصة السجناء السياسيين. وذلك لأن جائحة كورونا قد عبرت الحدود، ولم تترك ركناً من العالم ظالماً كان أم عادلاً، إلا وطرقت أبوابه، أحس بها على السواء، الرؤساء والوزراء، والفقراء الأغنياء، وعامة أفراد الشعب، ولم يكن مراعاة مصير من هم خلف القُضبان بعيدين عن الأضواء، أقل أهمية من الناحية الإنسانية، فإن انشغل الجمهور عنهم فلهم أحبة ينتظرون عودتهم، وقبل ذلك أن تبذل الحكومات أقصى جهد ممكن لضمان سلامتهم وعدم حرمانهم من حقوقهم الأساسية، مثلما حرموا من حريتهم الشخصية. وقد قال يوما الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا (إن المرء لا يعرف أمة ما من الأمم إلا إذا دخل سجونها. فالحكم على الأمم لا ينبغي أن يرتكز على معاملتها لموطنيها، ولكن على معاملتها لمن في المستويات الدنيا).
فما هي الحقوق الأساسية للمحرومين من حريتهم ما قبل وأثناء وبعد المحاكمة؟ وهل هناك معايير دولية ملزمة للدول الأطراف؟ وما هي السبل التي يجب أن يتبعها السجناء أو ذووهم في حال انتهاك حقوقهم؟
بإلقاء نظرة سريعة حول قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، نجد أن الأمم المتحد قد أقرت في عدة صكوك ومواثيق دولية بشأن مسؤوليات وواجبات الدول المتعلقة بمعاملة السجناء تحت أي شكل من أشكال الاحتجاز أو الحبس، وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم اعتماده في العاشر من ديسمبر 1948م، في المادة التاسعة منه بأنه لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً. كما ذهب الإعلان لأبعد من ذلك حين رسخ مبدأ البراءة، في المادة الحادية عشرة منه بأن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن يثبت ارتكابه لها في محاكمة عادلة ومنصفة، وسنأتي لاحقا للحديث حول معايير المحاكمة العادلة، حتى لا نغادر موضوع مقالنا هذا.
المعايير الدولية بشأن السجون ومعاملة السجناء والمحتجزين
أوصى أول مؤتمر دولي عقدته الأمم المتحدة في سنة 1955، بضرورة اعتماد قواعد دولية لمعاملة السجناء والمحتجزين، يمكن أن تلتزم به دول العالم يحقق أحد أبرز مقاصد المنظمة المتمثلة في احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والحفاظ على كرامته الإنسانية، والغرض من إصدار هذه القواعد والمدونات الدولية كتوصيات مرنة، وكحد أدنى مشترك بين الدول الأطراف، يضمن إدماجها في جميع التدابير التشريعية والقانونية والتنفيذية التي يتم اتخاذها على المستوى الوطني، ويحد من تذرع البعض باستحالة إمكانية تطبيق المثال نظرا للصعوبات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية التي تعرضها.
ولأن الحبس أو السجن هو تدبير مؤسسي يسلب الفرد حقه في حريته الشخصية في حدود قانونية مضبوطة الغاية منها حماية المجتمع من الجريمة، وإصلاح السجين ليعود معافى ويندمج في مجتمعه بعد الإفراج عنه. فإن تحقيق هذه الغاية يتطلب أن تكون السجون متهيئة بالوسائل التعليمية والأخلاقية والتربوية التي تقلص الفروق بين حياة السجن والحياة الحرة التي تنهض بالمسؤولية لديهم أو بالاحترام الكامل لكرامتهم الإنسانية، لتساعدهم في الاندماج وعدم الإقصاء، ووفقا لما تقدم فقد اكتسبت القواعد والمدونات الدولية المتصلة بحقوق السجناء أهمية كبرى بل وأضحت ضمانة حقوقية وقانونية ترد باستمرار في مذكرات المحامين وشكاوى السجناء أنفسهم، لإدارات السجون أو للجهات المسؤولة في الدولة. وتشكل ركيزة هامة من ركائز الحملات الحقوقية والإعلامية التي تطلقها المنظمات غير الحكومية على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي تستنكر من ازدراء الأنظمة القمعية لحقوق السجناء، والمتهمين والمشتبه فيهم.
ما هي هذه القواعد والمدونات؟
- القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، التي اعتمدتها الأمم المتحدة، سنة 1959م، والتي تم تنقيحها وإعادة تسميتها بقواعد نيلسون مانديلا، اعترافاً بنضاله وتضحيته بـ27 عاما في السجن ثمنا للحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
اعلان
- مدونة قواعد سلوك الموظفين المكلفين بتنفيذ القوانين، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، سنة 1979م.
- مبادئ آداب مهنة الطب المتصلة بدور الموظفين الصحيين، ولاسيما الأطباء، في حماية المسجونين والمحتجزين من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية، سنة 1982م.
- مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، التي اعتمدتها الجمعية العام للأمم المتحدة سنة 1988م.
- المبادئ الأساسية لمعاملة السجناء، التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، سنة 1990م.
- المبادئ التوجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة، التي اعتمدتها الأمم المتحدة، سنة 1990م.
أبرز ما ورد فيها من مبادئ ومعايير حقوقية؟
الحياد وعدم التمييز:
المبدأ الأساسي لهذه القواعد والمدونات ونطاقها هو أن يتم تطبيقها على جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز أو السجن، بحياد تام ودون تمييز في المعاملة بسبب العنصر او اللون أو الجنس أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي أو غير السياسي، أو الأصل الوطني أو العرقي أو الاجتماعي، أو الملكية أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر. ولا يعتبر من قبيل التمييز مراعاة الفصل بين الفئات لحماية حقوق النساء السجينات أو المحتجزات بتخصيص سجن لهن منفصلا تماما عن الرجال، أو المرضى الذي هم بحاجة إلى رعاية خاصة قد تقتضي نقلهم لتلقي العلاج داخل السجن أو خارجه، أو المسنين، أو المعوقين. مع استثناء الأطفال والأحداث من عقوبة السجن بدور إصلاحيات متخصصة، إلى جانب فصل المحبوسين قبل المحاكمة لأسباب مدنية عن المدانين بسبب جرائم جنائية.
إبلاغ الشخص بأسباب احتجازه لحظة القبض أو عند بدء الاحتجاز مباشرة:
تنص تلك المبادئ على عدم جواز استمرار إبقاء المحتجز دون أن تتاح له فرصة الإدلاء بأقواله في أقرب وقت وأمام سلطة قضائية مختصة، بحضور محاميه إن كان له محام، ويسبق ذلك إعلام الشخص المحتجز ومحاميه، لحظة القبض أو عند بدء احتجازه مباشرة معلومات كاملة عن أسباب احتجازه، أو مبررات التمديد له، وحقوقه أثناء الاحتجاز وكيفية استعمالها وحقه في تقديم الشكاوى حسب النظام المتبع في السجون.
النظافة والبيئة الصحية والطعام:
يجب على السلطة المختصة العناية بالصحة العامة للسجناء والمحتجزين من خلال الاهتمام بنظافة العنابر والزنازين والأسرة ولوازمها، والمراحيض والحمامات، وتوفير المياه بالقدر الذي يلبي حاجة كل سجين لنظافته الشخصية وبانتظام، بما في ذلك تمكين كل سجين من ممارسة الرياضة التي تناسبه في الهواء الطلق لمدة ساعة على الأقل في اليوم الواحد، وتوفير الوجبات الغذائية الكافية في الأوقات المعتادة، والمياه الصالحة للشرب كلما احتاج إليها للحفاظ على صحة وقوة السجين. وللموقوفين والمحتجزين رهن المحاكمة أن يأكلوا ما يريدون على نفقتهم، بأن يحصلوا على طعامهم من الخارج إما بواسطة الإدارة أو بواسطة أسرتهم أو أصدقائهم، والكتب والصحف وأدوات الكتابة وغيرها. فإذا لم يطلبوا ذلك كان على الإدارة أن تتكفل بإطعامهم، ولهم حق ارتداء ثيابهم الخاصة، أو ارتداء ثياب السجن غير المخصصة للمدانين.
الخدمات الطبية لكل شخص محتجز:
يجب توفير الخدمات الطبية لكل شخص محتجز دون تمييز بسبب وضعه القانوني، ويقدم أطباء الخدمات الطبية للسجناء، وفق بروتكولات العلاج المتبعة في البلد، سواء توفرت داخل السجن أو تم نقل السجين إلى المستشفى، شاملة علاج الأسنان من قبل طبيب مختص، وفي سجون النساء يجب توفير الخدمات الطبية المناسبة لهن خاصة المتعلقة بالحمل والولادة.
المسؤولية الصحية عن السجناء في حالة انتشار الأمراض المعدية:
يتم عزل السجناء أو المحتجزين الذين يشك في كونهم مصابين بأمراض معدية عن الأصحاء. ويجب على الطبيب المسؤول تقديم تقارير حول حالة الصحة البدنية والنفسية لكل سجين أو محتجز، بما في ذلك توضيح الضرر الصحي الذي وصلت أو ستصل إليه الحالة جراء أي ظرف من ظروف السجن، وطبيب السجن مسؤول بصورة منتظمة عن معاينة كمية الغذاء ونوعيته وإعداده، ومدة اتباع القواعد الصحية والنظافة في السجن، وحالة المرافق الصحية والتدفئة والإضاءة والتهوية في السجن، ونوعية ونظافة ملابس السجناء ولوازم أسرتهم، ومدى تقيد السجانين بإتاحة التمارين البدنية والرياضية وفق القواعد المحددة. كما يجب على إدارة السجن إخطار ذوي السجين في حالة حدوث الوفاة أو أصابته بمرض.
عدم استخدام الأغلال كوسيلة للعقاب:
تبين القواعد بأن أدوات التقييد كالأغلال والسلاسل لا تستخدم كوسيلة للعقاب، أو لتقييد حرية السجن إلا في حالات معينة كالخوف من هروب السجين أثناء نقله، أو لأسباب طبية بناء على توجيه الطبيب، أو لمنع السجين من الحاق الأذى بنفسه أو بغيره من السجناء، وتتم في أحوال مقيدة بزمن محدد وبموافقة السلطة الإدارية العليا.
حق كل محتجز في الاتصال بالعالم الخارجي:
يحق لكل شخص محتجز أو سجين الاتصال بأسرته وبأصدقائه واستقبالهم، وتلقي الزيارات في فترات منتظمة، وتلقي زيارة محاميه وإعداد دفاعه، ويجوز أن يكون في مرمى نظر الشرطي أو موظف السجن وليس مسمعهما. وبالاطلاع على الصحف اليومية، والاستماع للمحطات والقنوات الإذاعية والتلفازية، والوصول لمنشورات إدارة السجون والمكتبات المتوفرة في السجن. كما يسمح للسجناء الأجانب بالتواصل مع الممثلين الديبلوماسيين لبلدانهم الأصلية أو البلاد التي تتولى رعاية مصالح بلدانهم في حالة عدم وجود علاقات ديبلوماسية.
حماية المحتجز أو السجين من فضول الجمهور أو شتائمهم:
يجب عدم نقل السجناء في ظروف سيئة من حيث التهوية والإضاءة، أو علنية تعرضهم لأنظار الجمهور والفضول والشتائم بأي شكل من الأشكال، كما يجب على إدارة السجن انتقاء موظفين على قدر عال من النزاهة والثقافة والذكاء والكفاءة المهنية لأجل إدارة واعية وإنسانية للمؤسسات العقابية، مع الحرص على تأهيلهم وتنمية قدراتهم باستمرار، ويجب أن يتكلم مسؤول السجن ونائبه لغة السجناء ويفهموها او ان يستعينوا بمترجم، ولا يجوز استخدام القوة في مواجهة السجناء إلا دفاعا عن النفس أو في حالات الفرار أو المقاومة بالقوة أو بالامتناع عن أوامر قانونية. مع جواز أن يكون هناك تفتيش منتظم بقصد تحقيق التأديب والإصلاح، فإلى أي مدى من وجهة نظرك الشخصية تطبق هذه القواعد والمدونات من قبل الأنظمة السياسية في منطقتنا؟ وهل سيحظى السجناء بالحد الأدنى من العناية التي تقيهم خطر الإصابة بفيروس كورونا؟