وعد ولي العهد محمد بن سلمان السعوديين بمستقبل زاهر ومشاريع عملاقة ستغير وجه أكبر مصدّر للنفط في العالم، لكن سياساته وقراراته انتهت به إلى حال مَن يطلق الرصاص على قدميه.
آخر قراراته التي كثيرا ما وصفت بكونها "متهورة"، إشعاله حرب أسعار في أسواق النفط لعله يسقط القيصر الروسي ويحافظ على حصة المملكة في هذه الأسواق.
لكن ولي العهد السعودي جنى على نفسه وعلى المملكة بعدما انهارت الأسعار في لحظة تدهور فيها الطلب العالمي بسبب جائحة فيروس كورونا، لتتكدس براميل النفط السعودية على الناقلات العائمة في البحار لا تجد من يشتريها، وتضطر الرياض إلى إغلاق العديد من أنابيب النفط.
ويبدو أن بن سلمان لن يلتفت في الوقت الحالي إلى ما إذا كانت رؤيته 2030 لا تزال صالحة للتطبيق أم غير صالحة، بل سيكون همه تخفيف الضغوط الداخلية والحفاظ على منسوب الثقة في سياساته بالداخل أو الخارج، في وقت ستواجه فيه موازنة السعودية عجزا كبيرا ليس في هذه السنة فحسب بل لسنوات، بحسب توقعات المحللين.
براميل بلا مشتر
تقول صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية نقلا عن مسؤول بارز في شركة أرامكو إن السعودية قد تضطر إلى إغلاق بعض خطوط إنتاج النفط في حقل الغوار وغيره من الحقول، لعدم وجود مشترين له.
الصحيفة نقلت عن مسؤول سعودي أيضا أن المملكة يجب أن تقوم بأي شيء لوقف نزيف الأسعار، لكن المسؤول السعودي عبّر عن خشيته من أن الوقت ربما أصبح متأخرا.
وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن السعودية لم يعد أمامها سبيل سوى اللجوء إلى تخزين الكثير من النفط في البحر، بعد أن تسببت حرب أسعار النفط التي تشنها ضد روسيا في إغراق السوق بالنفط الخام.
وقالت الصحيفة إن البيانات الواردة في موقع تتبع الشحن "فليت مون" (FleetMon)، أظهرت وجود أربع ناقلات سعودية عملاقة على الأقل محملة بالنفط الخام غادرت المملكة أواخر مارس/آذار الماضي، ولا تزال عالقة في البحر منذ أوائل أبريل/نيسان الحالي، قبالة سواحل مصر وسنغافورة وماليزيا، دون وجهة نهائية.
وانهارت أسعار النفط منذ فشل اتفاق مجموعة أوبك بلس أوائل مارس/آذار الماضي، إلى الحد الذي تم فيه تداول النفط الأميركي بسعر قريب من ناقص أربعين دولارا للبرميل الاثنين الماضي، لأول مرة في تاريخ صناعة النفط الأميركية، ليؤثر ذلك على خام برنت القياسي الذي تراجع إلى أقل من 17 دولارا خلال تداولات اليوم الأربعاء، قبل أن تقلص بعض خسائرها وتصعد فوق العشرين دولارا بقليل.
وفي حديث للجزيرة نت، قال محلل الشؤون النفطية محمد يعقوب إن براميل النفط التي خزنتها السعودية على متن ناقلات ضخمة في البحار، قد تصبح غير ذات جدوى اقتصادية في حال استمرت جائحة كورونا من جهة وانخفضت أسعار الخام من جهة أخرى.
وأشار إلى أن الرياض توجّه بالعادة نحو خمسة ملايين برميل نفط إلى مصافي التكرير التي تملكها عبر العالم، بينما تصل الحصة التي تبيعها عبر عقود قصيرة الأجل ويتم حملها عبر الناقلات إلى أكثر من ستة ملايين برميل.
ولم يستبعد أن تلجأ السعودية إلى إغلاق عدد من الآبار النفطية في مسعى لخفض الإنتاج وإعادة الاستقرار لأسعار النفط في الأسواق.
أما المتخصص في الشؤون الاقتصادية مصطفى عبد السلام، فقال للجزيرة نت "إذا استمرت هذه الأزمة فقد تصبح تكلفة برميل النفط أغلى من سعر بيعه".
وتشير الأرقام إلى أن نحو 160 مليون برميل نفط متكدسة حاليا على متن ناقلات في البحار، ينتظر أصحابها تصريفها، ولا يُعلَم على وجه الدقة كم هو نصيب السعودية منها، لكن المؤكد أن حصة الرياض ستكون ضخمة، وفق مراقبين، مما يعني خسارات بملايين الدولارات كان يمكن تجاوزها لو أحسنت القيادة السعودية حساباتها قبل خوض حرب الأسعار مع روسيا.
حسابات خاطئة
يقول المتخصص في الشؤون الاقتصادية مصطفى عبد السلام إن القيادة السعودية لم تختر الوقت المناسب لخوض حرب الأسعار والإنتاج كرد فعل على انهيار اتفاق أوبك بلس بداية مارس/آذار الماضي، الذي كانت ترغب فيه الرياض بتنفيذ مزيد من خفض الإنتاج لدعم الأسعار في الأسواق.
ويضيف للجزيرة نت أن الطلب العالمي كان في طريقه إلى تسجيل مزيد من التدهور بسبب تداعيات فيروس كورونا، وبالرغم من ذلك قررت القيادة السعودية إغراق الأسواق لحمل روسيا على العودة إلى طاولة المفاوضات من جديد، لكن الأمور -بحسب عبد السلام- لم تسر كما خططت الرياض.
عبد السلام بدا مقتنعا بأن السعودية خاضت حرب أسعار بالوكالة عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي كان يسعى إلى الإضرار بالاقتصاد الروسي، في وقت كانت فيه الرياض تأمل في الحفاظ على حصصها في الأسواق.
يقول عبد السلام "السعودية دخلت الحرب بإيعاز من ترامب، لكنها لم تحسن حسابات الكلفة الاقتصادية والسياسية لهذه الحرب".
ويتابع أن تصور السعودية في البداية هو إغراق الأسواق بمزيد من البراميل ومن ثم إخراج روسيا، لكن غاب عن ذهن صانع القرار السياسي هناك أن روسيا تتمتع باحتياطات ضخمة من النقد الأجنبي تعينها على الصمود طويلا ولسنوات، كما تجاهلت أن الاقتصاد الروسي متنوع ولا يعتمد على إيرادات النفط فقط، وأن موسكو تتمتع بقوة اقتصادية وسياسية مقدرة عالميا.
الخبير في شؤون النفط محمد يعقوب لم يذهب بعيدا عن هذا التحليل، فقد قال للجزيرة نت عندما خاضت السعودية حرب أسعار كانت ترغب في الدفاع عن حصتها في الأسواق من أن تذهب إلى منتجين آخرين وعلى رأسهم روسيا.
لكن مع اشتداد الضغوط الاقتصادية وتراجع الطلب العالمي بسبب تداعيات فيروس كورونا، بدى أن القيادة السعودية أخطأت في الحسابات عندما أطلقت هذه الحرب في وقت يعيش فيه العالم انحسارا غير مسبوق.
تكاليف اقتصادية وسياسية
المحلل محمد يعقوب أوضح أن الأمر في السعودية يتجاوز الحديث عمن المسؤول عن هذه الوضعية، إلى حساب كلفة هذه الحرب وما تلاها من انهيار في الأسعار.
وأشار في هذا الصدد إلى أن ميزانية السعودية ستشهد ضغطا غير مسبوق ليس فقط هذه السنة وإنما في السنوات المقبلة أيضا، لكون ميزانيتها العامة تقوم على فرضية أن سعر برميل النفط بحدود 60 إلى 70 دولارا، بينما تهاوت أسعار خام برنت إلى نحو 16 دولارا للبرميل، وقد تصعد قليلا.
وبدا محمد يعقوب مقتنعا بأن تداعيات ما يحصل حاليا سيتجاوز السعودية إلى الدول التي تدعهما الرياض، بل دول الخليج والدول المنتجة للنفط بشكل عام.
أما المتخصص في الشؤون الاقتصادية مصطفى عبد السلام، فيعتبر أن الأهم في هذه الوضعية هو كيف ستتصرف الرياض لمواجهة الخسائر الناجمة عن حرب الأسعار التي قادتها؟
وعبّر عن قناعته بأن القيادة السعودية ستواجه تدهور ماليتها العامة بخيارات عديدة، من بينها فرض مزيد من الضرائب والرسوم على المواطنين والوافدين، وما سيتبع ذلك من ارتفاع للأسعار، بالإضافة إلى حفض تكلفة المشاريع والإنفاق العام والخصخصة وطرد العمالة الوافدة.
فشل رؤية بن سلمان 2030
يقول عبد السلام إن السعوديين لم يعودوا يتحدثون عن رؤية 2030 ومشاريع ولي العهد محمد بن سلمان مثل مشروع نيوم، لأن أغلبها توقف بسبب شح السيولة، بل بات همهم الوحيد هو كيف يديرون هذه المرحلة بأقل الخسارات.
وهنا حذر الخبير الاقتصادي القطري خالد الخاطر من أن السعودية ستواجه تحديات اقتصادية كبيرة بسبب تدني أسعار الخام في الأسواق، وما سيتبعها من تأثيرات سياسية.
وقال للجزيرة نت هناك عدة قنوات لتأثير حرب النفط على الاقتصاد السعودي، أهمها الدخل والإنفاق وخطط تنويع الاقتصاد في إطار رؤية محمد بن سلمان 2030.
وتابع أن استمرار انهيار الأسعار لفترة طويلة سيضع ضغوطا كبيرة على مشاريع تنويع الاقتصاد التي ارتبط بها مستقبل محمد بن سلمان السياسي، فتأخير هذه المشاريع أو إلغاؤها سيزعزع ثقة المستثمرين بالرياض، وسيؤدي إلى عزوفهم وربما يؤدي إلى تذمر شعبي.
وضرب مثالا على ذلك بسهم أرامكو الذي وضع السعوديون فيه أموالهم كمؤشر لتقييم سياسات المملكة، حيث انخفض سعره إلى أدنى من سعر الطرح.
وقال "إن حالات عدم اليقين والاستقرار كهذه، والتراجع أو الفشل والانهيار في الاقتصاد، ستزيد من وضع محمد بن سلمان هشاشة وستهدد مستقبله السياسي، وستعزز من موقف مناوئيه".
وفي وقت سابق من هذا العام، نُقل عن سفير الولايات المتحدة السابق لدى السعودية جوزيف وسيتهال، قوله إنه خلال لقائه وحديثه مع بن سلمان تأكد لديه اعتقاد راسخ بأن "السعودية باتت تتهددها كارثة وخراب كبيران".
وخلاصة ما جناه محمد بن سلمان على السعودية والمنطقة كانت نتيجة قرارات متهورة، وفق مراقبين. فحتى مع إسدال الستار -ولو مرحليا- على حرب أسعار النفط بين السعودية وروسيا، واتفاق كبار المنتجين على خفض يقارب عشرين مليون برميل يوميا اعتبارا من مايو/أيار المقبل، فإن هذا الاتفاق قد يكون جاء متأخرا بعدما غرقت الأسواق بالنفط وبيع بأبخس الأثمان وعاد الحبل الذي ربطه بن سلمان ليلف عنقه.