رصد مسلسل التغريبة الفلسطينية عدة مواقف تجسّد علاقة الفلسطيني بالبارودة، والمكانة العزيزة التي تتبوؤها في الوجدان الفلسطيني والحياة الفلسطينية، منها مثلا مشهد احتفاظ الزوجة ببارودة زوجها الشهيد وارتباطها بها ارتباط الروح بالجسد، فقط في حالة واحدة وافقت خضرا زوجة الشهيد ان تسلم البارودة وهي أن يستلمها مجاهد آخر حيث لا تتوجّه ولا ينطلق منها الرصاص الا الى أعداء فلسطين، ثم مشهد عودة البارودة من ميادين القتال لأهل صاحبها بعد أن تصعد روحه شهيدا ليحملها ولده من بعده.
البارودة بأنواعها ومسمّياتها المتجددة لها تاريخ وذكريات عزيزة فهي مرتبطة بالدفاع عن العرض والأرض، وبالتالي فهي جزء لا يتجزأ منهما وقد تولّدت من هذه العلاقة قيم واعراف واخلاقيات عزيزة على كل فلسطيني حرّ، منها مثلا أن لا تتغيّر وجهتها وأن تبقى بوصلتها مشرعة باتجاه المحتلّ ولا يمكن لها ولمن يملك حقّ حملها أن يغيّر هذه الوجهة إلا إذا أخلّ بهذه الثوابت الراسخة في الوجدان الفلسطيني، فالبارودة أصبحت جزءا لا يتجزأ من الأرض والعرض والروح الفلسطينية الاصيلة، وأيّ استخدام خاطئ ما هو الا خروج سافر عن هذه الأعراف العظيمة المتفق عليها من قبل كل حرّ وشريف في هذا البلد.
سماء مدينة البيرة تحوّل في اليومين الماضيين الى ميدان رماية، أمطرت البنادق الفلسطينية السماء رصاصا، لماذا؟ وما هي هذه الثقافة المتجددة لمن يملك سلاحا أن يستهدف برصاصه السماء وأن يرعب بذلك قلوب الناس، من أعطاه حقّا باختراق الحجاب الصوتي لدى الناس الآمنين في بيوتهم؟ وكيف سمح لنفسه أن يخترق كل قواعد حمل السلاح قبل ان يخترق الأعراف الفلسطينية في قداسة هذا السلاح المرتبطة بالشهداء والأرض والعرض؟
أنت بذلك سيدي يا من سمحت لنفسك بفرح أو ترح أو لنشوة عابرة أن يلعلع رصاصك في السماء، تنقضّ بذلك على ارث الشهداء ووصاياهم، كأنك تقول لهم بفعلك لا بقولك، مضى عهدكم ولم يعد لوصاياكم أي أثر، استلمنا الراية منكم وذهبنا بها من ساحة المعركة الى ملعب عبثي نمارس فيه هواياتنا الشاذّة.
أنت بذلك سيدي تستخدم السلاح في غير موضعه فتفرح المحتل بك، بل يزيد على الفرح بتشجيعه لك وبما يفتح من أسواق سوداء، إنه بذلك يوسّع دائرة القتل والجريمة وضرب النسيج الاجتماعي الفلسطيني كما يفعل في الداخل المحتل.
أنت بذلك أيضا تبدّد هذه الذخيرة الحيّة وتكشف سلاحك لعدوّك بما يجعلك مملوكا مكشوفا، يمسك الإسرائيلي برسنك وإذا فكّرت بتغيير وجهته فهو لك بالمرصاد، ليس لك الا أن تتناغم مع ما يريده عدوّك منك والا كان اعتقالك ومصادرة سلاحك .
أنت سيدي بحاجة الى أن تعالج نفسك نفسيّا، لأنه لا أحد في العالم يطرب على صوت الرصاص غيرك أنت ومن يسير على شاكلتك، هناك مشكلة مثلا لو وجدت انسانا يطرب على صوت يُجمع الناس على أنه يُذكّر بالموت واراقة الدماء وإزهاق الأرواح فهل هذا طبيعي؟
أنت سيدي بحاجة الى أن نصدمك لعلك تستيقظ من هذا الهروب من الذاكرة الفلسطينية التي قدّست السلاح وجعلته للجهاد المقدّس الذي يحرّر البلاد والعباد ولكنه اليوم بات مسموحا لكل من هبّ ودبّ الا سلاح المقاومة! أنت لا يدفعك الى استهداف السماء بسلاحك الا غطرسة ونقصانا في الذات، فتعوّض هذا النقص وهذا التوق العظيم لإبراز الذات وظهورها بصورة القويّ الذي يملك السلاح ويطلق النار ويملأ الدنيا ضجيجا وأزيزا، انت لا تحسب لرصاصك الطائش أن يصيب فيقتل كما حصل ويحصل كثيرا، لا تعتبر من حوادث كثيرة تسمع بها وتنتظر أن تعتبر بنفسك بعد ان "تقع الفاس في الراس".
وبعد ان أخرجت أقلام التوعية كل ما بجعبتها لم يبق الا أن تُفعّل قوانين رادعة في هذا الامر لأنه: " إنّ الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".