أعادت التصريحات المفاجئة التي صدرت عن رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، الجنرال أفيف كوخافي، أواخر الشهر الماضي، معرباً فيها عن معارضته (وإسرائيل بالتالي) العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، جدلاً في إسرائيل، بالقدر نفسه الذي سلطت فيه الضوء على مساعي تل أبيب لمحاولة فرض رؤياها مجدداً على الإدارة الأميركية الجديدة، خصوصاً أنّ تصريحات كوخافي جاءت مناقضة لتصريحات سابقة له أيّدت الاتفاق السابق. واعتبر مراقبون في إسرائيل أنّ التصريحات تبدو كأنها جاءت بناءً على طلب من رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، مع إيحاء باحتمال تكرار السياسة نفسها التي اتبعها الأخير، إزاء مواقف إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، ووصلت ذروتها في الخطاب الذي ألقاه نتنياهو في الكونغرس في مارس/ آذار عام 2015، وعارض فيه السياسة الأميركية لإدارة أوباما في عقر مجلسي الشيوخ والنواب.
وفي ظلّ الجدل في إسرائيل، ودعوات إلى عدم تكرار ما حدث خلال إدارة أوباما، وضرورة التواصل دبلوماسياً وثنائياً مع البيت الأبيض، وهو التوجه الذي يدعو له الرئيس السابق للقسم السياسي والأمني في وزارة الأمن الإسرائيلية، الجنرال عاموس جلعاد، طرح رئيس مجلس الأمن القومي ومستشار الأمن القومي السابق لنتنياهو، العميد يعقوف ناغلي، في مقال له في صحيفة "يسرائيل هيوم"، أمس الجمعة، النقاط التي رأى أنه ينبغي تضمينها في أي اتفاق نووي جديد مع إيران، مما يجعل هناك إمكانية ليكون هذا الاتفاق مقبولاً إسرائيلياً.
وبحسب ناغلي، فإنّ الميل الأميركي للعودة لاتفاق 2015 ليس مفاجئاً لإسرائيل ولا لحلفائها في الخليج، الذين يبدون قلقاً من صفقة جديدة. لكن مثل هذه الصفقة، وفق ناغلي، قد تكون ممكنة "إذا عولجت الثغرات العميقة في الاتفاق الأصلي"، مضيفاً "لكن من المهم أن ندرك لماذا أصبحت العودة للاتفاق أمراً غير ممكن". وبحسب ما يقوله المتحدث نفسه، "لا حاجة للعودة بالزمن والخوض في جدل حول إيجابيات وسلبيات الاتفاق الأصلي، لأنّ ذلك سيقود فقط إلى لعبة من تراشق الاتهامات التي لن تساعد أي طرف على الخروج من الوضع الحالي الذي لا شيء فيه واضحاً مثل وضوح وضع إيران النووي سابقاً، ووضع برنامجها النووي اليوم".
ويعتبر ناغلي أنّ النظام الإيراني دفع بقوة شديدة منذ الاتفاق النووي بعمليات تخصيب اليورانيوم وتحسين القدرات التكنولوجية المرافقة واللازمة لذلك، مشيراً إلى إقرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنّ هناك أسئلة مهمة يجب على إيران توفير الردود عليها بكل ما يتعلق بالقدرات العسكرية لديها، وبالاستناد أيضاً إلى المعلومات التي وفرتها إسرائيل بعد سرقة الأرشيف النووي الإيراني في عام 2018. وبالتالي، فإنّ التقدم التكنولوجي الذي حققته إيران في هذا السياق، ولا سيما في تركيب أجهزة الطرد المركزي من الجيلين الثاني والثالث، (IR2-M, IR4) (IR-8, IR-6, IR-9)، هو عملياً العقبة الأولى أمام "العودة للاتفاق".
وبحسب رؤية ناغلي، فإنّ هذا الواقع، مع عدم تطرق الاتفاق النووي الأصلي إلى المواد الخام اللازمة والجاهزية الإيرانية للتخصيب التي لم تؤخذ بالحسبان، أدى إلى الخطأ في سلسلة الحسابات الزمنية بشأن الوقت المطلوب حتى تراكم إيران الكمية اللازمة من المواد الانشطارية. عدا عن ذلك، فإن أجهزة الطرد المتطورة التي تم إخفاؤها تحت الأرض في مفاعل نطنز النووي في أصفهان وسط البلاد، مكنت إيران من اختراق سقف القدرة على تخصيب اليورانيوم وعدم البقاء عند مستوى الجهاز الوحيد المتوفر الذي كان الاعتقاد بوجوده حجر أساسي في الاتفاق النووي، وقد باتت الخبرات والمعرفة المتوفرة لدى إيران حقيقة ناجزة، مكنت الإيرانيين من الارتقاء للمرحلة الأعلى في التخصيب الصناعي، بسرعة تصل لأكثر بثلاث مرات عن السابق في المستويات كافة، وفق ناغلي.
يوضح ناغلي أنّ "هذه المعرفة أصبحت الآن بأيدي إيران، بغضّ النظر عمّا نصّ عليه الاتفاق. وإيران أصبحت اليوم، وفق تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، على مسافة أسابيع معدودة من الوصول إلى الكمية الكافية من المواد الانشطارية اللازمة لإنتاج سلاح نووي، ولم يعد ممكناً الإبقاء على مسافة سنة بين إيران وقدرتها على تطوير قنبلة نووية. والعودة للاتفاق القديم ستمكن إيران من إضافة بنى تحتية وتخصيب متطور لليورانيوم في منشآت سرية، وأن تراكم سراً اليورانيوم المخصب اللازم لصنع القنبلة، وبالتالي لا عودة إلى الوراء، إلى الاتفاق الأصلي، فهذه خطوة غير ممكنة".
ويرى ناغلي في مقاله أنّ على الولايات المتحدة والغرب أن يأخذوا في أي اتفاق جديد بالحسبان مسألة السيطرة على البلوتونيوم (معدن ثقيل جداً يستعمل في صنع أسلحة ذرية)، بعد أن عادت إيران إلى تطوير مسار معالجة البلوتونيوم من جديد، وخصوصاً أنّ الإيرانيين يتحدثون عن خطوات تمكنهم من العودة لتفعيل مفاعل أراك للماء الثقيل كما كان عليه قبل الاتفاق النووي، ويعكفون حالياً على تطوير الموقع من جديد لكسب ورقة مساومة لاستخدامها في المفاوضات.
ويطالب ناغلي أن يتم ضمان مراقبة قدرات تخصيب معدن اليورانيوم بمستوى 20 في المائة، ومراقبة منشآت أخرى تقيمها إيران لليورانيوم منخفض التخصيب، وهي منشآت ضرورية وحيوية لتحويل المواد الانشطارية إلى سلاح، موضحاً أنّ النظام الإيراني يستغل ثغرة في الاتفاق تحظر العمل على معدن اليورانيوم ولا تفرض قيوداً على بناء البنى التحتية اللازمة لذلك. ويدعو ناغلي إلى وجوب مراقبة المواد الانشطارية، ومنظومات السلاح وطرق نقله، في إشارة إلى المشروع الإيراني لتطوير ترسانة صاروخية قادرة على حمل رؤوس نووية.
ويعيد مقال ناغلي للأذهان الشروط الإسرائيلية المعلنة المتعلقة بأن يشمل الاتفاق الجديد أيضاً قيوداً على المشروع الصاروخي لطهران، و"وقف النشاطات الإيرانية الإرهابية" في المنطقة، وعدم رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، بل تكثيف هذه القيود ومضاعفة العقوبات.
في المقابل، يرى عاموس جلعاد الذي كان من أشد معارضي تصريحات كوخافي ودخوله على هذا الخط علناً، وجوب تعزيز التواصل والتنسيق الدبلوماسي والاستراتيجي مع الولايات المتحدة لضمان تأثير إسرائيل على شروط الاتفاق الجديد، وإدراجها في الاتفاق، لأنه لا يمكن الذهاب لخيار عسكري، مثلما ألمح الجنرال كوخافي، بدون دعم وموافقة أميركيين.