برزت على السطح دعوات مختلفة لتأجيل الانتخابات، وكان العنوان الأبرز والقاسم المشترك لكل التصريحات هو "القدس" سببًا أو ذريعة لذلك، بدعوى أن الاحتلال لم يوافق على إجراء الانتخابات في القدس، وعليه لا بد من تأجيل الانتخابات أو تعطيلها في هذه الآونة.
لكن ثمة حقائق مختلفة للتأجيل لا ترتبط بالقدس نهائيا ولا بقضيتها، وإن أُثير هذا السبب في الفضاء كثيرا، فهذه الانتخابات في ظروفها الحالية كشفت عن الحالة العضوية لبعض القوى والفصائل، وبينت أن مناعة البعض بدت متدهورة، حيث عجزت بعض القوى في الساحة الفلسطينية عن تقديم نفسها وإثبات حضورها التنظيمي والجماهيري إثباتًا لائقًا يتناسب مع حجم التسويق الإعلامي الذي قدمته لنفسها مرارا.
لا سيما حركة فتح التي تقدم نفسها على أنها أسطورة الكفاح المسلح ومحبوبة الجماهير، ومنقذة الحالة الوطنية، وعند أول اختبار حقيقي للدخول في الانتخابات ظهرت خلافاتها على السطح وعجزت عن تقديم قائمة موحدة وأفرزت للجمهور، 1- قائمة يقودها ناصر القدوة، 2- قائمة يدعمها دحلان، 3- قائمة يدعمها عباس.
والأمر لم يتوقف عند هذا الحد فقد تنوعت مظاهر الخلاف أيضا على صعيد القاعدة والقيادات والكوادر الوسطى في المناطق ليعبروا عن سخطهم من قائمة فتح بعدة أشكال منها؛ 1- إعلان مناطق تنظيمية بأنها باتت مستقلة ولن تشارك، 2- تقديم الاستقالات، 3- الخروج التلفزيوني لمهاجمة سياسات الحركة، 4- إطلاق النار وإغلاق مناطق لساعات، 5- التهديدات، وغيرها من أشكال الفوضى.
في حين كانت قيادة فتح تجلس في مقر "المقاطعة برام الله" تتدارس ما يجري في محاولة لإنقاذ الحركة في جو من السخط والغضب نظرا لردود الفعل الفتحاوية غير المتوقعة، فبدأت المعالجة من قبل محمود عباس رئيس حركة فتح، من خلال التهديد بالفصل، وقطع المرتبات، والملاحقة الأمنية في محاولة لضبط الحالة المتردية للتنظيم، وكان أحد أبرز القرارات فصل "ناصر القدوة" من عضوية اللجنة المركزية لرغبته في الترشح بعيدا عن قائمة فتح.
وعلى الجانب الآخر فإن جهات مختلفة أخذت تستطلع أوزان كل القوى ومن بينها القوتين الأبرز فتح وحماس، وكان من بينها تقارير استخبارية، فلسطينية وعربية، ومراكز أبحاث، وخبراء وباحثين، خلصوا معظمهم إلى أن وضع فتح الداخلي "كارثي بامتياز" وأنها إن لم تعالج أزماتها وتوحد قوائمها، فإن حظوظها ستكون ضعيفة نتيجة للتجاذبات وتشتت الأصوات.
أما حماس فقد ظهرت بأنها الأوفر حظا لعدة أسباب موضوعية؛ 1- تقديم قائمة موحدة، 2- عدم وجود أي خلافات بشأن الأسماء،3- التماسك التنظيمي وفرز قيادة جديدة، 4- مراعاة التوزيع الجغرافي، 5- تمثيل كل شرائح المجتمع، 6- تقديم شخصيات وطنية وازنة، إضافة إلى قدرة حماس على إثبات حضورها وثقلها الجماهيري في الضفة والقطاع.
الأمر الذي أظهر رئيس السلطة وحركة فتح "محمود عباس" في موقف حرج لكون تيارات واسعة داخل الحركة تحمله المسؤولية المباشرة عما يجري في الحركة، وتحذره من أي مغامرة قد تؤدي "لانتحار سياسي وشرعي" لمكانة فتح نتيجة خسارتها المحتملة.
هذا إضافة إلى حالة اللوم عربيا نتيجة رفض عباس كل المحاولات التي أجريت مؤخرا لجمع شتات حركة فتح في قائمة واحدة وإنهاء الخصومة مع دحلان، التي بدت خصومة شخصية أكثر منها سياسية، وهذا بدوره عمق الخلاف عربيا مع عباس لتبدأ بعض الدوائر المخابراتية في المنطقة العمل بطريقة موازية لدعم شخصيات تخلف عباس في المرحلة القريبة.
هذه التحديات والمخاطر لم تكن غائبة عن طاولة البحث لدى الدوائر الإسرائيلية المعنية التي تتخوف أمنيا وسياسيا من إمكانية فوز حركة حماس من جديد، والتي ترى أن الانتخابات قد تشكل إشكالية حقيقية أمام المصالح والأهداف الإسرائيلية سواء كانت ذات أبعاد تكتيكية أو استراتيجية.
فـ(إسرائيل) لا تريد عودة حماس لحكم غزة، ولديها قلق من حصول الحركة على شرعية من جديد، وتتخوف من تمددها السياسي في الضفة، وعليه لا مصلحة في توفير أجواء مناسبة لإنجاح الانتخابات سواء في القدس أو غيرها.
وفي السياق نفسه فإن الموقف الأمريكي لن يكون بعيدًا عن الموقف الإسرائيلي، فالإدارة الجديدة لا تطمح بأي صورة إلى أن تُجرى الانتخابات في ظل الوضع الحالي لحركة فتح لأنه سيكون سببا في نجاح حركة حماس التي تناهض (إسرائيل) ولديها ارتباطات بدول ومنظمات في المنطقة يهددون المصالح الأمريكية.
وعليه فإن المطلوب الآن إنقاذ رئيس السلطة من هذا المستنقع بعد أن أصبح "رأسه فوق الماء" غير قادر على الغوص مجددا أو حتى الخروج لبر الأمان، لذلك انبرت الأقلام والأفواه للتنظير لقضية الإلغاء أو التأجيل بشكل متزاحم "بذريعة القدس"، دون أن يدرك هؤلاء أن الستار مرفوع وهم يحملون ذرائعهم عرايا أمام الشعب فقد تكشفت سوءاتهم السياسية والتنظيمية.
لكن التأجيل أو الإلغاء له تداعيات كارثية على الصعيد الوطني والسياسي وأبرزها:1- انهيار الجهد الوطني لإنهاء الانقسام أو تراجعه،2- ظهور حالة من تبادل التهم والمسؤوليات حول أسباب التأجيل وتصاعد الجدل والتراشق الإعلامي، 3- نجاح الإرادة الإسرائيلية في فرض واقع جديد في القدس،4- ارتفاع حالة الغضب والنقمة الشعبية على القوى الفلسطينية، 5- تعريض القضية الوطنية لمخاطر جسيمة، 6- تعميق الانقسام وفقدان الثقة، 7- ضياع الفرصة التاريخية لتجديد الشرعيات الفلسطينية بعد 15 عاما من الانقسام.
ومن ثم إعادة الفوضى من جديد وربما ذهاب عباس لتشديد عقوباته ضد خصومه السياسيين سواء حركة حماس في غزة أو كوادر فتح الناقمين عليه، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لخيارات مختلفة لا أستبعد فيها قيام أطراف عربية وفلسطينية بتحريض (إسرائيل) على شن عدوان جديد لكسر التوازن والاستقرار الذي تعيشه حماس حتى تتمكن السلطة من استعادة القطاع بصورة مغايرة بعد فشلها في السيطرة على المشهد من خلال الانتخابات، التي كان هدفها المركزي غير المعلن؛ إزاحة حركة حماس من المشهد السياسي.