لم يعتد القيادي البارز في كتائب القسّام "مروان عيسى" على الظهور أو الحديث لوسائل الإعلام منذ انخراطه في العمل المقاوم مع تأسيس النواة الأولى للجهاز العسكري لحركة "حماس" في ثمانينيات القرن الماضي، وحتى أصبح نائبًا لقائد هيئة الأركان محمد الضيف، خلفًا لأحمد الجعبري الذي اغتاله الاحتلال عام 2012.
ثِقل مركزه القيادي وموقعه الحسّاس، حتّما عليه البقاء في الخفاء طيلة هذه السنوات؛ سيما وأنه تعرض لعدة محاولات اغتيال بعد خروجه من سجون السلطة الفلسطينية مطلع الانتفاضة الثانية، إلا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة دوره الرائد في تطوير قدرات الجهاز العسكري الذي أصبح يمثل قوة ردع حقيقية أمام "أقوى جيش في المنطقة".
عيسى الذي فشلت "إسرائيل" في اغتياله خلال العدوان على غزة في أيّار/ مايو الماضي، كان ولا يزال موضع رصد واهتمام بالغين لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية التي وضعته ضمن قائمة أبرز المطلوبين لديها، كما ويحظى باهتمام كبير في وسائل الإعلام العبرية التي دائمًا ما تصفه بـ"العقل المدبر"، حيث اقترن اسمه بالتخطيط والإشراف على الكثير من العمليات النوعية التي نفّذتها كتائب القسّام على مدار سنوات صراعها المستمر مع الاحتلال، كما برز اسمه في عمليات التفاوض (غير المباشرة) مع الاحتلال الإسرائيلي.
الظهور الأول
الرجل الثاني في كتائب القسّام، وعضو المكتب السياسي لحماس قرّر الخروج على الإعلام ولأول مرة في مقابلة مصورة عبر قناة "الجزيرة"، أثار عقبها العديد من التساؤلات والتكهنات حول دلالة هذا الظهور "الغير مسبوق"، وما هي الرسائل التي أراد إيصالها لصناع القرار في "إسرائيل" في هذا التوقيت تحديدًا؟؟
ورغم أنه حرص على عدم إظهار وجهه في اللقاء -لاعتبارات أمنية بالطبع- إلا أن (12 دقيقة) من عمر وثائقي "ما خفي أعظم" الذي أعدّه الإعلامي الفلسطيني تامر المسحال كانت كفيلة بالكشف عن بعض ملامح شخصية وصفت "إسرائيليًا" بأنها "الأقوى" في حماس؛ فقد بدى حضوره هادئًا ورزينًا، فيما عكست تصريحاته مدى الحنكة التي يتمتع بها، ومدى اطلاعه ومتابعته لكل شاردة وواردة، في كل ما يتعلق بساحة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
العسكري السياسي، الذي بدأ مشواره رياضيًا متألقًا في ملاعب السلّة في مسقط رأسه بمخيم البريج وسط قطاع غزة، بدى وأنه قارئًا ومثقفًا أيضًا، وهذا ما أظهرته المكتبة التي كانت تضم عددًا من الكتب والمجلدات خلفه خلال المقابلة المتلفزة.
دلالات التوقيت
لكن ما كان لافتًا هو التوقيت الذي قرّر نائب قائد هيئة أركان القسّام الخروج فيه للإعلام، حيث جاء ظهوره بعد وقت قصير من انتهاء معركة "سيف القدس" التي أبدعت خلالها المقاومة في وسائلها وإمكاناتها التي استطاعت مراكمتها على مدار سنوات، ما يؤكد أن المقاومة لم تتأثر بعد المعركة وأن قيادتها على رأس عملها ولديها الكثير من الملفات لكي تنجزها.
ولعل ظهوره في هذا التوقيت تحديدًا؛ جاء ليقطع الطريق على الجميع -بما فيهم الوسيط المصري- فيما يخص الملف الأهم على أجندة قيادة القسّام، ويؤكد أن ربط قضية الجنود الأسرى بإعادة إعمار قطاع غزة وفك الحصار "غير مقبول" نهائيًا لدى قيادة المقاومة، وأن هذا الملف يجب العمل فيه على حدا (خاصة قُبيل بدء مباحثات القاهرة التي يشارك فيها).
كما تزامن خروجه في وقت تمرّ فيه الحالة السياسية في "إسرائيل" بانعطافة كبيرة على صعيد تشكيل حكومة جديدة، وذلك بعد أن خسر نتنياهو حظوظه بالبقاء على سدة الحكم، واضعًا الحكومة الجديدة -إن كتب لها الحياة- أمام تحد كبير.
رسائل ما بين السُطور
ولعل ما كشفه القيادي مروان عيسى من معلومات حصرية ومفصّلة حول كواليس عملية أسر الجندي جلعاد شاليط، والمفاوضات الشّاقة والمعقدة التي تلتها وصولًا لإتمام "الصفقة"، أظهرت مدى صبر وحنكة قيادة المقاومة وقدرتها على المناورة من جهة، والاحتفاظ بالأسرى لديها من خلال "وحدة الظل" التي تتولى مهمة الاحتفاظ بـ"أسرى العدو" من جهة أخرى.
كما أراد على ما يبدو أن يذّكر القيادة السياسية الجديدة في "إسرائيل"، بأن ما رفضه أولمرت قبِل به نتنياهو اليميني الأكثر تطرفًا في حينه، وأنه لا حاجة لتضييع مزيد من الوقت في هذا الملف.
لكن اللافت في حديثه، هو تطرقه للأحداث الميدانية التي أعقبت عملية "الوهم المتبدّد" والتي أسفرت عن اختطاف شاليط عام 2006، والضغط الشديد الذي تعرضت له المقاومة بغزة من قبل الاحتلال؛ خاصة بعد استهدافه رفقة قائد هيئة الأركان محمد الضيف وقادة آخرين؛ ليؤكد على أن حزب الله كان له دور في تخفيف هذا الضغط، وذلك عندما نفّذ عملية خطف ناجحة أُسر على إثرها جنديين إسرائيليين ليدخل بعدها في مواجهة مفتوحة مع الاحتلال أطلق عليها "حرب تموز".
حديثه عن هذا الأمر وربط ما جرى بغزة عام 2006 بتحرك ميداني لحزب الله في حينه، يشي بأن التنسيق بين الجانبين لا يزال قائمًا وقويًا، وكأنه أراد أن يوصل رسالة للاحتلال بأن المقاومة بغزة رغم ما تمتلكه الآن من إمكانات -لم تكن بالسابق- إلا أنها ليست وحدها، وأن جبهة أخرى قد تُفتح في وجهه إذا لزم الأمر.
التسجيل الصوتي والجنود الأسرى
أما فيما يتعلق بإمكانية التوصل لصفقة تبادل جديدة مع الاحتلال، فقد أكد مروان عيسى على أن المقاومة تمتلك "أوراق مساومة" لإنجاز "صفقة مشرفة"، وأن جهدًا يوازي حجم هذا الملف يبذل الآن، في إشارة واضحة منه بأن قيادة القسّام مصمّمة على إنجاز هذا الملف وأن لديها ما يمكّنها من فرض شروطها على الاحتلال.
وفي معرض رده على سؤال ما الذي تخفيه المقاومة في ملف الجنود الأسرى، اكتفى بالقول: إن "ملف الأسرى سيكون الصاعق والمفجر لتلك المفاجآت القادمة للعدو"، ما يشي بأن كتائب القسّام لديها العديد من المفاجآت التي لم تكشفها بعد، في هذا الملف وربما في غيره.
أما التسجيل الصوتي لأحد الجنود الإسرائيليين والذي رافق ظهوره خلال البرنامج، فقد أظهر مدى جدية المقاومة لإنجاز هذا الملف، وقدرتها على المناورة والضغط على الاحتلال من خلال استثارة أهالي الجنود الأسرى، الذين اختلط عليهم تحديد ما إن كان ابنهم الذي ظهر صوته في التسجيل الذي لم يتجاوز "النصف دقيقة" أم لا.
وبذلك تكون قيادة كتائب القسّام قد نجحت في تحريك هذا الملف، دون إعطاء معلومات مجّانية للاحتلال، تاركة مساحة واسعة من التحليلات والتكهنات، و"ما خفي أعظم".