قبل أسبوعين، كانت قناة السويس في حالة تأهب قصوى. واستعد مشغلو الرافعات والطيارون وقوات الأمن وبقية العمال لدخول سفينة إيفر غيفن من الطرف الجنوبي للقناة، وهي السفينة التي علقت وأغلقت القناة لمدة أسبوع في شهر آذار/ مارس الماضي، وتسببت بخسائر تصل إلى 15 مليون دولار في اليوم، حيث اضطرت مئات السفن إلى الانتظار في طابور طويل.
مرت سفينة إيفر غيفن عبر القناة خلال شهر آب/ أغسطس الماضي، لكنها كانت فارغة في ذلك الوقت. أما هذه المرة، فقد كانت محملة بالكامل، ما جعل فريق العمليات بالقناة في حالة تأهب قصوى. سارت السفينة وسط القناة بسلاسة وعمّ الارتياح إدارة القناة والحكومة المصرية وصناعة النقل البحري بأكملها.
لكن شبح التوتر ما زال يلقى بظلاله على القناة، حيث تنتظر القاهرة بفارغ الصبر قرار "إسرائيل" النهائي بشأن خط أنابيب النفط الذي يمتد من إيلات إلى عسقلان.
تجاوزت عائدات قناة السويس الـ6 مليارات دولار هذه السنة، وهو رقم غير مسبوق. ورغم تواصل الجائحة، فإن من المتوقع أن ترتفع الإيرادات بنسبة 11 بالمئة في النصف الأول من 2022.
الأمر الأول المثير للقلق هو أن تحويل بعض شحنات النفط القادمة من آسيا ودول الخليج إلى خط الأنابيب الإسرائيلي سوف يُضعف حركة المرور في قناة السويس، ويخفض حجم العائدات التي تشكل 2 المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
من غير الواضح لماذا اختار وزير الحرب بيني غانتس تأجيل القرار الإسرائيلي وإجراء مزيد من المحادثات حول الاتفاق مع الإمارات العربية المتحدة. قد يُعزى ذلك إلى التقارير التي صدرت عن مسؤولين أمنيين حول مخاطر تشغيل خط الأنابيب، أو بسبب معارضة وزيري البيئة والطاقة للمشروع، أو لأن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أعرب لرئيس حكومة الاحتلال نفتالي بينيت عن مخاوفه من أن يلحق خط الأنابيب ضررا بالاقتصاد المصري.
الصين على الخط
في شأن ذي صلة، أوضح جورج صفوت، المتحدث باسم هيئة قناة السويس لموقع "المال نيوز" المصري، أن 9 بالمئة من البضائع العالمية تمر عبر القناة، وكذلك 24.5 بالمئة من حركة الناقلات، بما في ذلك حركة الناقلات على طريق آسيا وأوروبا. وأضاف أن السلطات المصرية تسعى جاهدة لتطوير القناة وتحسين الخدمات، وتراقب عن كثب كل الطرق المنافسة المحتملة.
لكن المراقبين وخبراء الشحن المصريين والإماراتيين يقولون إنه حتى لو لم يأخذ خط الأنابيب الإسرائيلي في البداية إلا حصة صغيرة من حركة المرور عبر القناة، فقد تكون المشكلة الأكبر هي استخدام المملكة العربية السعودية لهذا الخط في حال تطبيع العلاقات مع "إسرائيل". ولكن ليس خط الأنابيب فحسب هو ما يقلق المصريين.
تتحدث التقارير عن خطط لإقامة خط سكة حديد بين "إسرائيل" والإمارات عبر الأردن، لكن هذا المشروع غير وارد حاليا لأنه يجب أن يمر عبر المملكة العربية السعودية. في المقابل، فإن التقارير حول نية الإمارات شراء ميناء حيفا، جعلت خبراء مصريين يتحدثون عن مؤامرة إسرائيلية إماراتية لضرب الاقتصاد المصري.
في هذا الصدد، أوضح الخبير الملاحي وائل قدور، في مقابلة صحفية أن "وجود ممر بري بين إسرائيل ودول الخليج قد يضر بعائدات مصر المتأتية من قناة السويس، لذلك فإنه ينبغي على مصر أن تنظر في كيفية إزالة العقبات التي تعترض استقطاب الاستثمار الأجنبي في منطقة القناة". وأشار قدور إلى أنه المهم اضطلاع الصين بدور رئيسي في الاستثمارات على طول القناة وتقديم الخدمات للسفن التي تمر عبرها.
سنة 2019، وقّعت الصين ومصر مذكرة تفاهم تتضمن استثمارات صينية بقيمة 5 مليارات دولار لتطوير منطقة صناعية بمساحة 6 كيلومترات مربعة. وقد استثمرت الصين مليارات الدولارات في بناء العاصمة الإدارية الجديدة التي تبعد 45 كيلومترا شرقي القاهرة.
جسر بري
هناك شبح آخر يحوم حول القناة وهي الاتفاقية الأخيرة بين الإمارات العربية المتحدة وإيران وتركيا، والتي تنص على أن البضائع القادمة من موانئ دبي وأبوظبي سيتم شحنها إلى جنوب إيران، ومن هناك تُنقل عبر الطرق البرية إلى تركيا وأوروبا. ويمكن أن يؤدي هذا الطريق إلى اختصار فترة النقل من 20 يومًا إلى أسبوع واحد.
من المفارقات أن الإمارات العربية المتحدة تعد إحدى أكبر المستثمرين في المنطقة الصناعية لقناة السويس. وخلال تشرين الثاني/ نوفمبر، وقعت اتفاقية بقيمة 800 مليون دولار لتشييد البنية التحتية للميناء الجديد الذي تبنيه مصر بجوار الإسكندرية، ومليار دولار لبناء مزرعتين للطاقة الشمسية، إحداهما تقع على ساحل البحر الأحمر، والأخرى بالقرب من أسوان جنوب مصر.
من جانب آخر، وقعت شركة الطاقة الإماراتية "إي جي هولدينغ" اتفاقية مبدئية مع إيران لبناء محطات طاقة تعمل بالغاز والطاقة الشمسية في مقاطعة خوزستان الإيرانية. ورغم أن هذه الصفقة تتحدى العقوبات الأمريكية، إلا أن الإمارات العربية المتحدة لا تبدو قلقة، خاصة أن الأمريكيين لم يتخذوا أي خطوة لردعها عن توقيع اتفاقية الشحن البري مع إيران.
ليس من قبيل المصادفة أن يصرح المسؤولون الإماراتيون بأنه إذا ألغت "إسرائيل" اتفاقية خط الأنابيب، فلن يؤثر ذلك على علاقات الإمارات مع تل أبيب، حيث إن العلاقات مع مصر لا تقل أهمية بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة، خاصة أن مشروع خط الأنابيب الإسرائيلي -رغم فوائده- قد تكون له تكلفة دبلوماسية باهظة.
وتتغير خارطة خطوط أنابيب الغاز والنفط وممرات الشحن وطرق الشحن البري بشكل مستمر، وينطبق الأمر ذاته على العلاقات الدبلوماسية. وقبل سنتين، كان من الصعب تخيل توقيع الإمارات اتفاقيات تجارية مع إيران، ناهيك عن صفقات لشحن النفط مع "إسرائيل".
وترسم المصالح الاقتصادية في الوقت الحالي معالم الخارطة الدبلوماسية التي تقف "إسرائيل" عليها بثبات، حتى لو كان عليها استيعاب هذه القوى المتنافسة. وتجد "إسرائيل" نفسها أمام مفارقة حقيقية، إذ تهدد بضرب إيران، لكنها ليست في وضع يسمح لها بتوبيخ الإمارات على توطيد علاقاتها مع طهران.
في الواقع، يتطلب أي تحرك عسكري أو دبلوماسي ضد إيران مراعاة مصالح الإمارات ودول الخليج الأخرى، إذ يمكن أن يعرقل شن هجوم على إيران حركة الشحن وعائدات هذه الدول. وتتعلق هذه المفارقة أيضا بالعلاقات مع مصر والأردن، اللتين تستعدان لتزويد لبنان بالغاز والكهرباء عبر سوريا.
ولن تدعم هذه الخطة التي وافقت عليها الإدارة الأمريكية (رغم العقوبات المفروضة على سوريا)، الحكومة والشعب اللبناني فحسب، بل إنها ستخدم مصالح حزب الله، الذي فضّل التغاضي عن حقيقة أن الكهرباء القادمة من الأردن سيتم إنتاجها بشكل جزئي عن طريق الغاز المنتج في "إسرائيل".