30.01°القدس
29.77°رام الله
28.86°الخليل
32.05°غزة
30.01° القدس
رام الله29.77°
الخليل28.86°
غزة32.05°
الإثنين 14 يوليو 2025
4.51جنيه إسترليني
4.7دينار أردني
0.07جنيه مصري
3.89يورو
3.33دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.51
دينار أردني4.7
جنيه مصري0.07
يورو3.89
دولار أمريكي3.33

في أنفاق الموت

خبر: ست ساعات بين انتظار الموت وأمل الحياة

"الحمد لله على كل حال" كانت هذه الكلمات التي خرجت من فم ميسرة , ويتردد من أفواه الجالسين قولهم: "كتب الله لك حياة جديدة". قلة العمل وشظف الحياة والسعي نحو لقمة العيش تدفع ميسرة وغيره من أبناء هذا الشعب إلى العمل في الأنفاق أو العمل في معابر الموت , فمنذ بداية الحصار على غزة لم يجد أبناؤها إلا الأنفاق كشريان حياة يمد أرضهم وأبناء شعبهم بأسباب الحياة. ميسرة ناصر البطنيجي ابن الثمانية عشر ربيعاً جلسنا معه ليروي لنا قصة المعاناة تحت أنقاض نفق منهار بصحبة صديقه الذي فارق الحياة علي شوقي القاضي. صباح يوم السبت 12/1/2013 اتصل "ميسرة" بصديقه "علي القاضي" وأخبره أنه لا يريد الذهاب إلى العمل بسبب عدم تحصيلهم أجرتهم خلال الأسبوعين اللذين سبقا هذا التاريخ , ولكن إلحاح صديقه-وكأنه إلحاح نحو القدر الذي ينتظره- دفعه إلى التوجه إلى العمل يرافقه أخوه علي البطنيجي وكذلك عمه متفقاً معهم ألا يعملوا إذا لم يتحصلوا أجرهم , وكان هذا اليوم أول يوم بعد هطول الأمطار الغزيرة على المدينة. أخبر صاحب النفق العمال أن "القبضة" غداً فغادر معظمهم وبقي آخرون منهم ميسرة وصديقه علي . النفق 22 متر منها 12 متر مغطاة بالماء والرمل بسبب الأمطار وعليهم تنظيفه ؛ بدءوا العمل والماء يسيل من بين الخشب الذي يغطي النفق من الداخل وكأنها إشارة خطر وإنذار , يقول ميسرة:" قمنا بحفر مترين ونصف وقلنا لصاحب النفق: سننهي العمل كله اليوم إن شاء الله فقال لنا: إن كان عليكم خطر فاخرجوا" . خرج ميسرة وصديقه علي من النفق ليتشاركا معاً في تناول الغداء كما سيتشاركا في ساعات الألم والمعاناة المنتظرة , وفي هذا الوقت دخل أحد العمال النفق فوقع حجر من الحجارة التي تكسو النفق من الداخل وقال:"هذا موت" وخرج ورفض متابعة العمل. نزل ميسرة وعلي إلى النفق يسيران نحو مصيرهما ؛ فبدأ علي بالعمل وميسرة ينظر إلى الحجارة التي تغطي داخل النفق وكأن قلبه يحدثه أن أمراً سيحدث , يقول ميسرة " قال لي علي:ما بالك ؟ فما نظرت حتى سمعت صراخاً من الأعلى ينادي فإذا بالحجارة تسقط علينا, فقلت لعلي : ما هذا ؟ فقال : النفق أطبق علينا , فقلت له: لن نخرج ." يقول ميسرة تذكرت في هذه اللحظة كيف كانت بداية اليوم وأنا متوجه إلى العمل , حيث نزل في غير المكان الذي ينزل فيه يومياً على غير العادة , وكذلك تذكر ضحكه الكثير حتى من كثرته قال له صاحب المحل الذي يشتري منه فطوره : لماذا تضحك؟ فقال له ميسرة: هل الضحك عليه ضريبة؟حرام أضحك!! , وتذكر أنه مشى بحذائه في طريق مملوءة بالماء والطين فعلقت إحدى قدميه ولم يستطع إخراج حذائه فذهب إلى العمل بحذاء واحد , وكأنها مقدمات تخبر النفس بما ينتظرها. [title]قبر الموت[/title] بدأ ميسرة وصديقه يناديان بأعلى أصواتهما والحجارة والرمال تغطيهما بالكامل , فتعبا من النداء وأخذا ينطقان بالشهادة , أخبر ميسرة صديقه علي بأنه متعب جداً , يقول ميسرة :" بدأت أنبش بالرمل وأضعه في فمي وأضغط عليه وأقول : يا الله أنجدني , يا الله أنجدني!!" , كلمات يحمل كل حرف منها زفرات من الألم يبثها لخالقه ومولاه ساعة الكرب وانقطاع السبل. بعد ساعة شعر ميسرة وصديقه بأن هناك أحداً يحفر وسمعا بعض الأصوات , وكانت هذه محاولات لإخراج عاملين كانا فوقهما تمكنوا من إنقاذهما بعد ثلاث ساعات , ومع سماع صوت الحفر يقول ميسرة : " قلت لعلي: ورب الكعبة سنخرج ونعود كما كنا , ولو متنا نموت مع بعض ولو خرجنا نخرج مع بعض.." , وتارة يخبر ميسرة صديقه أنه متعب جداً فيقول له علي: اصبر سنخرج , وهكذا كانت تمضي اللحظات يحدث كل منهما الآخر بالموت تارة وبالحياة تارة أخرى , كل منهما يوصي الآخر إذا خرج أن يتوجه إلى أم صديقه ويصبرها ويطلب منها المسامحة , لحظات بكى فيها كل منهما , هكذا قال ميسرة. ازداد الحفر حتى وصل إلى ميسرة وعلي , وأخذ الشخص المنقذ ينادي عليهما , يقول ميسرة:" قلت لعلي : رد عليه. فقال لي: أنت رد عليه خليك تطلع قبلي " , أمسك المنقذ كتف ميسرة وبدأ برفع الحجارة عن رأسه وميسرة يصرخ من شدة الألم ويطلب منه أن يرفع الحجارة عن صدره , فرفعها ثم ربط ميسرة بالحبل ورفعوه لأعلى وأخرجوه من النفق أو من "قبر الموت" ليبدأ عهداً جديداً في الحياة. قضى ميسرة ست ساعات بين انتظار الموت وأمل الحياة تضرب به الحجارة في كل جانب من جسده حتى كتب الله له النجاة , أما صديقه "علي" الذي كان يتهامس إليه طوال الساعات-التي تحولت إلى سنوات حينها- فقد حاولوا إنقاذه ولكن انهار عليه النفق مرة أخرى فغادر الحياة التي قضى فيها 19 عاماً يشكو حصار شعب وظلم ظالم وصعوبة حياة سرقت منه حياته وشبابه. ميسرة ناصر البطنيجي كان قد فقد أعمامه الشهداء نائل ومنصور وإبراهيم البطنيجي في تاريخ 25/8/2009م إثر قصف إسرائيلي لنفق كانوا يعملون فيه , لتتجدد المعاناة أمام هذه العائلة , وتمثل صورة لآلام هذا الشعب ومعاناته من أجل أن يصنع الحياة ويحيا بصناعة الكرامة.