ذكرت في مقالي السابق أن الإنسانية ما زالت تعاني ويلات الحروب، ولم تفلح تلك المحاولات التي تفتقت عنها العقلية البشرية الجمعية بتشكيل مؤسسة دولية تجمع بين جنباتها كل دول العالم لتحافظ على السلم والأمن الدوليين، لم تفلح تلك المحاولات حتى الآن في تجنيب البشرية ويلات الحروب التي ما زالت تستعر بين البشر وتهلك الحرث والنسل وتقضي على معالم الحضارة الإنسانية.
الحروب مهما تعددت أسبابها فإنها تنحصر -من وجهة نظري- في سببين أساسيين هما: الأرض والموارد، ويتفرع منهما أسباب عديدة تمثل مصالح الدول، الأرض والموارد هما الحاجتان الأساسيتان اللتان تنازع البشر من أجلهما منذ فجر الإنسانية، فالإنسان دائمًا بحاجة إلى بيت يؤويه وموارد يسد بها رمقه ويؤمن بها حاجته، ولما كانت هاتان الحاجتان هما سبب النزاع البشري؛ كانت دائمًا تتعقد حولهما المفاوضات أو تقع الحروب.
عند نشوب أي حرب لا بد من مفاوضات تجمع الأطراف إذا ما وضعت الحرب أوزارها، لتجمع المفاوضات طرفي النزاع للاتفاق على تقسيم الأرض والموارد وفقًا لما آلت إليه الحرب.
إذًا المفاوضات والحرب هما الوسيلتان المعتمدتان حتى الآن لتحقيق مصالح الدول، إذا فشلت الأولى في تحقيق الغاية يُلجأ إلى الثانية، وإذا ما انتهت الثانية تتعقد الأولى، هكذا دواليك.
قد تنتهي الحرب بطرف منتصر يفرض إرادته على الطرف المهزوم، وتلك نتيجة طبيعية للحرب، وقد تنتهي الحرب دونما طرف منتصر إذا تعادلت القوى أو لم تحقق الحرب أهدافها المعلنة أو المخفاة، وحينها يكون للمفاوضات والمهارة فيها الدور الأكبر في تحقيق المكاسب الوطنية.
لدينا الآن في العالم ثلاثة نماذج لمفاوضات يمكن أن نفهم منها مآلات النزاعات التي تحدث في المنطقة:
النموذج الأول -وهو الذي يشغل العالم الآن- المفاوضات الروسية الأوكرانية التي تجري تحت النار بعد أن اندلعت الحرب بين البلدين، ويبدو أن الروس ماضون في تحقيق أهدافهم من الحرب، وقد أعلنوها، وهي: نزع سلاح أوكرانيا، وإعلان حياديتها، والاعتراف بضم جزيرة القرم، هذه المطالبات الروسية يجري فرضها بآلة الحرب الروسية الهائلة التي جعلت أوكرانيا -وهي الدولة التي مساحتها نحو 600 ألف كيلومتر وعدد سكانها نحو 40 مليونًا واقتصادها ترتيبه 57 عالميًّا- جعلتها مجرد بقعة أرض غير قابلة للحياة، على الأقل خلال مدة الحرب، تجوب أراضيها الدبابات وتحلق في سمائها الطائرات ويعمّها الموت والخراب.
ويبدو أن الحكومة الأوكرانية التي خُدعت بوعود دول الناتو التي تخلت عنها إلا من بعض المساعدات وجدت نفسها وجهًا لوجه في مواجهة قوة عاتية، وهي تحاول الآن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، حفاظًا على بقاء هوية الدولة الأوكرانية ووجودها.
أما النموذج الثاني فهو المفاوضات الإيرانية الأمريكية في الملف النووي التي ما زالت تجري منذ سنوات، بعد أن نقض الرئيس الأمريكي السابق الاتفاق النووي الذي توصل إليه في عهد الرئيس أوباما.
المفاوضات الإيرانية الأمريكية لا تجري تحت النار، ولكنها تجري تحت سيف العقوبات والتهديد بين الحين والآخر بالحرب، ويبدو أن الجانب الإيراني نجح إلى حد بعيد في تحقيق مكاسب واضحة للمرة الثانية، بعد أن حقق الإيرانيون صمودًا واضحًا كسر حدة العقوبات الاقتصادية، واستطاعوا تسديد بعض الضربات العسكرية للقوات الأمريكية ردًّا على هجمات شنت على مصالحهم، واستطاعوا أن يعادلوا كفة الميزان بالرد على مقتل قاسم سليماني، وكان للهجوم الأخير في أربيل صدى كبير في كيان الاحتلال، حتى إنه لم يستطع أن يعلق على الهجوم وتجرع الضربة القاسية بصمت.
الصمود القوى الذي أبداه الإيرانيون على الصعيدين العسكري والاقتصادي أدى إلى أن تتجه المفاوضات في الملف النووي نحو النهايات لتحقيق مكاسب واضحة للجانب الإيراني، بعد فشل سياسة الضغط الأمريكية، والتخوف الشديد من شن حرب على إيران لعدم ضمان نتائجها، وعدم الرغبة في تكرار تجربة العراق أو أفغانستان.
النموذج الثالث -وهو نموذج مركب- المفاوضات الفلسطينية الصهيونية، وهي كما يعلم الجميع على مسارين:
مسار المفاوضات التي تجريها سلطة أوسلو التي تفاوضت مع العدو دون أي أوراق ضغط لديها أو قوة، ولو بالحد الأدنى، وظنت أن التسلح بالقرارات الدولية أو دعم الولايات المتحدة هذه المفاوضات سيكسبانها بعض القوة، لكن كل ذلك لم يكن ذا فائدة تذكر، وجرت المفاوضات وفقًا للهوى والمصالح الصهيونية، وثبت فشل هذا المسار بعد ثلاثين عامًا من انطلاقه، مع عدم تسليم أربابه من رجال السلطة الفلسطينية بذلك.
أما المسار الآخر فهو مفاوضات المقاومة مع الاحتلال التي جرت تحت النار خلال الحروب الأربعة التي شنت على قطاع غزة وحققت فيها المقاومة قوة ردع لا يستهان بها، الأمر الذي أدى إلى أن تنتهي تلك الحروب دائمًا دون أن يستطيع أحد الأطراف تحقيق نصر واضح فيها بتحقيق أهدافه المعلنة للحرب، وبذلك كانت المفاوضات دائمًا تنتهي باتفاق لا ينفذ، ويبقى الحال على ما هو عليه، وتعود الدائرة لتدور من جديد، لتبقى احتمالية الحرب قائمة لعدم زوال أسبابها.
الأمر الذي أريد أن أصل إليه من هذا المقال أن المفاوضات لا بد أن تجري لمنع الحروب أو لترتيب الأوضاع بعد نهايتها، ولا بد لأصحاب القضية أن يكونوا على طاولة المفاوضات بأنفسهم، وهذا عرف دولي لا يشكل أي مساس بشرف أو قيمة أو وطنية المفاوض الذي يجلس مع العدو، لكونه يمارس دورًا وطنيًّا ويمثل إرادة شعبه في هذه المفاوضات، بشرط أن تكون القيادة وطنية، ليست متواطئة أو مفرطة، ولقد رأينا المفاوضين الأوكران يجلسون مع المفاوضين الروس على طاولة واحدة، مع أن دماء الطرفين تسيل في ساحة المعركة، وكذلك الإيرانيون والأمريكان.
فإن كان من عبرة لنا الفلسطينيين من الحرب الروسية الأوكرانية أو المفاوضات الإيرانية الأمريكية نعتبرها؛ أظن أن اختيار الحلفاء، واختيار الوقت، وأخذ قوة الخصم بالحسبان، وعدم الانجرار لحرب خاسرة، والتفاوض المباشر الفعال مع العدو هي أبرز الدروس التي يمكن لنا أن نستفيدها.