تحافظ تركيا على سياسة متوازنة تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا، فمن جهة ترفض العملية العسكرية الروسية وتؤكد على وحدة الأراضي الأوكرانية، وفي ذات الوقت لم تنضم إلى العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.
وتجري أنقرة درو الوساطة بين كييف وموسكو، ويسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعقد لقاء قمة يجمع فيه نظيريه الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
ولا تعد طبيعة العلاقات التركية الروسية وحدها هي السبب خلف تمسك تركيا بموقف متوازن تجاه الحرب الأوكرانية، بل هناك عوامل ثلاث أخرى تقف خلف هذ1ا الدور.
في التقرير الشهري لمجلة "كريتر" التركية، ذكر الكاتب فرحات بيرنتشجي، أن تركيا اختلفت عن كافة الأطراف الفاعلة بسياستها الفريدة التي اتبعتهها منذ بداية الأزمة والاحتلال، وخلال فترة الحرب تمكنت من تحقيق نتائج ملموسة لم تكن أي دولة أخرى إنجازها.
أربعة عوامل
وأضافت المجلة أن هناك أربعة عوامل تؤثر على نظرة تركيا تجاه الأزمة الأوكرانية، أولها أنها إحدى دول البحر الأسود، والثاني علاقاتها الثنائية مع موسكو وكييف، والثالث تحكمها بالمضائق المطلة على البحر الأسود، والرابع عضويتها في حلف الشمال الأطلسي "الناتو".
أولا، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت هناك حقبة من الاستقرار والتوازن في البحر الأسود، وبالمقارنة مع بلغاريا ورومانيا وأوكرانيا وروسيا وجورجيا، التي تقع على ضفاف البحر الأسود، فإن تركيا هي الدولة ذات أطول ساحل ما يعطيها أهمية للحفاظ على التوازن هناك.
وأدى الهجوم الروسي على جورجيا عام 2008، لاهتزاز هذا التوازن لصالح موسكو، فيما أوجد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 خللا خطيرا في التوازنات لصالح روسيا ضد الدول المتشاطئة الأخرى.
وتركيا من حيث المبدأ، ولأسباب تاريخية وجغرافية ثقافية، وجيوسياسية أكدت مرارا أنها تعارض ضم شبه جزيرة القرم، وقد يؤثر الهجوم الروسي الاخير على أوكرانيا على الخلل في البحر الأسود بشكل جذري، لذلك فإن الحفاظ على الموقف المتوازن تجاه هذه التحركات الروسية مهمة للحفاظ على الاستقرار في البحر الأسود.
ثانيا، طورت تركيا نموذج علاقة فريدة مع روسيا وأوكرانيا على مدى السنوات الـ30 الماضية، وفي نموذج العلاقة هذه، التي يمكن وصفها بأنها سياسة التعاون المجزأ، يتم التعامل مع المشاكل بين البلدين عن طريق الفصل، وليس بطريقة اللعب على التوازن من وجهة نظر أنقرة أو استبدال أحدها بالأخرى، وهذا الوضع تدركه إدارتا كييف وموسكو أيضا، وقد أكد عليه أردوغان من بداية الأزمة بقوله "لن نتخلى عن روسيا أو أكرانيا".
وخلال الأزمة وحتى أثناء الغزو، أكدت تركيا على احترام وحدة أراضي وسيادة أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، وعارضت بشدة الاحتلال الروسي؛ وطورت التعاون مع أوكرانيا في مختلف المجالات، لا سيما في صناعة الدفاع، ومن ناحية أخرى ورغم معارضتها سياسة روسيا تجاه أوكرانيا لم تنضم أنقرة إلى العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، وواصلت التعاون معها في مختلف المجالات، لاسيما في مجال الطاقة، وبفضل هذه السياسة الناجحة، لم تتعرض تركيا لانتقادات لا من أوكرانيا ولا من روسيا، بل على العكس أصبحت طرفا فاعلا يحظى باحترام البلدين.
العامل الثالث، يتعلق بالحقوق الممنوحة لتركية بموجب اتفاقية "مونترو" المتعلقة بالمضائق التركية، وفي البداية أعلنت انها ستقيم الوضع في الوقت الذي تتحول فيه التوترات إلى صراع وستطبق الاتفاقية دون تردد، وبعد ذلك أجرت التقييمات اللازمة ووصفت الوضع بـ"الحرب"، لتغلق المضائق أمام السفن العسكرية للأطراف المتحاربة.
ورحبت الأطراف المتصارعة والدول الأخرى بهذه الخطوة، التي حالت دون انجرار تركيا والبحر الأسود إلى الحرب.
وعند االنظر إلى العامل الرابع الذي هو الناتو فقد كان يوجد بنية يحاول من خلالها مواصلة التضامن مع مصادر التحفيز المختلفة رغم عدم وجود مصدر تحفيز كبير يزيد التضامن في التحالف بقدر الاتحاد السوفيتي في الفترة ما بعد الحرب الباردة.
على الرغم من أن روسيا هي واحدة من مصادر التحفيز هذه ، في الواقع حتى خلال الحرب الجورجية في عام 2008، وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، إلا أنها لم تشكل تهديدا مثل الغزو الحالي لأوكرانيا.
وبالنظر في هذا السياق، إلى جانب عوامل أخرى، فإن عضوية تركيا في الناتو هي ديناميكية مهمة تؤثر على نظرتها للأزمة الأوكرانية.
في واقع الأمر، تمتلك أنقرة وجهة نظر خاصة تأخذ في الاعتبار مسؤولية حلف الناتو، وتذكر الجهات الفاعلة الأخرى بذلك من وقت لآخر، سواء أثناء الأزمة أو أثناء مرحلة الاحتلال أو في محاولات إخماد النزاعات.
مقاربات تركية للأزمة الأوكرانية
يمكن النظر إلى نهج تركيا تجاه التطورات في أوكرانيا بشكل أساسي في بعدين: فترة ما قبل الاحتلال والفترة التي تبدأ بالاحتلال، وخلال الفترة من ضم شبه جزيرة القرم إلى 24 شباط/ فبراير (خاصة عندما زادت التعزيزات العسكرية الروسية) ، كانت الأولوية الرئيسية لأنقرة هي خفض حدة التوتر في المنطقة ومنع تفاقم الأزمة.
في هذه المرحلة، فإن تركيا التي تواصل علاقاتها الثنائية مع أوكرانيا وروسيا، نقلت مرارا إلى الطرفين أنها مستعدة للقيام بدورها لخفض التوتر والقيام بدور الوسيط، إلا أن دعوات أردوغان لم يتم الرد عليها بسبب موقف روسيا المتعنت، فضلا عن حقيقة أن الولايات المتحدة والدول الأوروبية ساهمت من حدة هذه التوتر.
وبعد بدء الهجمات الروسية، يبدو أن أنقرة التي زادت من دعواتها ومبادراتها، تحركت لتحقيق ثلاثة أغراض، أولها قصير الأجل وتتمثل بإجلاء المواطنين الأتراك (ومواطني دول أخرى طلبوا ذلك) من مناطق الصراع.
بالإضافة إلى ذلك، لعبت تركيا دورا في إخلاء الأوكرانيين من بعض المناطق التي تركزت فيها الهجمات الروسية، من خلال فتح ممرات إنسانية.
الهدف المتوسط الأجل لتركيا، الذي لا يزال جاريا، هو ضمان وقف مؤقت لإطلاق النار (إن أمكن دائم)، ووقف الصراع وفتح الباب أمام حوار فعال بين الأطراف.
الهدف طويل الأجل لتركيا هو إيجاد حل شامل للأزمة، وتحقيق سلام دائم في أوروبا الشرقية والبحر الأسود، وحاليا على الرغم من أن الهدف على المدى المتوسط قد يبدو شرطا أساسيا، تهدف مبادرات أنقرة إلى تحقيق الأهداف المتوسطة والطويلة الأجل معا.
ولم تكن هناك نتائج ملموسة من مفاوضات اسطنبول أيضا، ولكن ربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يضع فيها الطرفان جانبا مواقفهما الصارمة السابقة، ويعربان عن مطالبهما الأكثر قابلية للتفاوض، وإن تأثير أنقرة ومساهمتها في تحقيق هذا الوضع هو نجاح لا جدال فيه بفضل الدبلوماسية التركية.
وفي هذه المرحلة، لا يمكن القول إن محاولات تركيا لإنهاء النزاع وإيجاد حل شامل قد وصلت إلى نهايتها، وتتضمن المبادرات تولي أنقرة أدوارا تنتقل من الوسيط إلى الوسيط الضامن، ولا يبدو أن الرئيس أردوغان قد يتخلى عن إصراره على نجاح هذه التحركات.