رغم المواساة "الحارة" التي قدمها وزير الخارجية الأمريكية بلينكن لعائلة شيرين أبو عاقلة من خلال الاتصال الشخصي بشقيقها طوني، ورغم بيان الخارجية الأمريكية الذي عبر عن الحزن الشديد لمقتل شيرين ومطالبته بالتحقيق الشامل في الجريمة ومحاسبة المسؤولين واعتبار الجريمة تشكل إهانة لحرية الإعلام في كل مكان، ورغم إدانة نائب السكرتير الصحفي للبيت الأبيض كارين بيير لجريمة قتل شيرين ودعوته لإجراء تحقيق فوري وشامل، ورغم استنكار مجلس الأمن الدولي بشدة مقتل شيرين ودعوته إلى إجراء تحقيق فوري وشامل وشفاف وعادل ونزيه في مقتلها -علماً أن رئاسة مجلس الأمن في دورته الحالية للمندوبة الامريكية السفيرة ليندا توماس غرنقيل- ورغم وقوف الكونغرس الأمريكي دقيقة صمت حداداً على روح مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة ومطالبته على لسان رئيسته نانسي بلوسي بإجراء تحقيق محايد ووصفها لمقتل شيرين بأنها مأساة مرعبة، ورغم تعبير وزير الخارجية بلينكن عن انزعاجه من اعتداء قوات الاحتلال على جنازة شيرين.
رغم كل هذه التصريحات وهذه المواقف التي يعتقد كثير من الناس أنها موقف متقدم وغير معهود للإدارة الأمريكية ضد الاحتلال في قضية مقتل شيرين أبو عاقلة التي شكلت صدمة للضمير الإنساني، فإن مجمل هذه التصريحات لم تذكر ولو بكلمة واحدة أي نوع من أنواع الإدانات أو الشجب أو الاستنكار للاحتلال، وكانت الإدانات تنصب على الجريمة دون المجرم وكانت إدانات للجناية دون الجاني، وهذا ما أكده موقف الخارجية الأمريكية الأخير الذي أُعلن كعاجل عبر قناة الجزيرة بأن الخارجية الأمريكية لا تُفضل في إحالة ملف شيرين أبو عاقلة لمحكمة الجنايات الدولية، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن الإدارة الأمريكية ما زالت توفر غطاءً سياسياً للاحتلال على جرائمه، ولذلك استخدمت التصريحات المتعلقة بمقتل شيرين بشكل لا يشكل ضغطًا على الاحتلال أو إدانة له، ولم تكن المطالبات بالتحقيق الفوري والعادل والنزيه والشفاف إلا محاولة لخلط الأوراق لإظهار أن الجناة قد يكونون من غير جيش الاحتلال، أو على أبعد تقدير محاكمة الجندي الذي أطلق النار محلياً دون أن يُحَقق دولياً في القضية من خلال محكمة الجنايات الدولية حيث لا يمكن ضمان الحكم ولا يمكن وقف التحقيق عند مستوى معين.
إذن الموقف الأمريكي من القضايا الفلسطينية ما زال على حاله ولم يشهد أي تطور ولم تكن التصريحات الأمريكية في مقتل شيرين إلا محاولة من الإدارة الأمريكية للتساوق مع حالة الغضب العالمي العارم من ارتكاب الاحتلال لهذه الجريمة مع ضبط التصريحات بشكل دبلوماسي دقيق حتى لا تُمس حصانة الاحتلال التي توفرها الإدارة الأمريكية له، وكان التعاطي مع قضية شيرين لا يعدو قضية إنسانية لا تتعدى إلى قضية قانونية يجب أن تتخذ فيها الإجراءات الجدية لمحاسبة مرتكب الجريمة والآمر بارتكابها، فإذا كان الموقف الأمريكي أصبح واضحاً من إحالة ملف الجريمة لمحكمة الجنايات فهل ستبقى السلطة الفلسطينية وفية للوعد الذي قطعه الرئيس أبو مازن خلال الجنازة الرسمية التي أقيمت لشيرين في مقر المقاطعة بإحالة الملف للجناية الدولية أم أن الموقف الأمريكي سيكون له تأثيره على القرار الفلسطيني؟
وهل ستساوم السلطة الفلسطينية على دماء شيرين ببعض الدعم المحجوب من الإدارة الأمريكية وبعض الوعود السياسية أم أن الموقف الفلسطيني سيبقى صامداً في هذه القضية؟
خاصة وأن وزير الحرب الصهيوني غانتس كان قد التقى بالرئيس أبو مازن ومن ثم تَوَجه للولايات المتحدة وكان على أجندة اللقاءين ملف شيرين أبو عاقلة.
أظن أن السلطة الفلسطينية مدعوة للمرة الألف لأن يكون قراراها منسجمًا مع الحالة الشعبية الفلسطينية بل وحالة التضامن العالمي التي شكلت رافعة للقضية الفلسطينية من خلال دماء شيرين أبو عاقلة، وأولى الناس بالحفاظ على هذه الحالة هي السلطة الوطنية التي ينبغي لها أن تكون مسؤولة وطنياً وأخلاقياً عن هذه القضية، فلا يجوز أن تطالب السلطة الفلسطينية المجتمع الدولي بالتحرك ضد الاحتلال فيما تبقى هذه متخاذلة أو مقصرة في اتخاذ ما يقع على عاتقها وطنياً من واجب، الأمر الذي يستدعي تشكيل حالة وطنية فلسطينية مانعة من تراجع السلطة عن موقفها بإحالة ملف شيرين للجناية الدولية وتشكيل حالة دعم ومساندة للسطلة في هذا القرار الوطني من النخب المجتمعية والأحزاب والفصائل، وعدم السماح بإهدار حالة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني في قضية شيرين في دهاليز السياسة القذرة، والإصرار على المطلب الشعبي الفلسطيني بإحالة ملف شيرين للجناية الدولية وفقاً للمادة (13) من ميثاق روما الأساسي من خلال دولة فلسطين كطرف سامٍ متعاقد على هذا الميثاق.