خلال الحرب العالمية الثانية؛ وقبل هزيمة الحلفاء، اجتمع ممثلو 44 دولة في الولايات المتحدة الأمريكية لمناقشة إقرار اتفاقية «بريتون-وودس» والتي جعلت من عملة الولايات المتحدة الأمريكية (الدولار) العملة التي تمثل احتياطي العالم؛ فقد أنهت الاتفاقية ربط العملات بالذهب بشكل مباشر، وجعلت العملات مرتبطة بالدولار، المقوم بدوره بالذهب؛ لتصبح الولايات المتحدة صاحبة أكبر احتياطي من الذهب في العالم.
وبدلًا من مراكمة الدول للذهب؛ أصبحت الدول مضطرة لمراكمة الدولار، بناءً على تعهد من الولايات المتحدة الأمريكية أن تلتزم باستبدال الذهب لديها بالدولار لدى الدول الأخرى متى طلبته؛ وفقًا لأسعار الصرف مقابل الدولار، مع عدم وجود حاجة لدى الدول لفعل ذلك، في ظل كون الدولار عملة احتياط العالم.
لكن وبعد أقل من ثلاثة عقود على توقيع الاتفاقية؛ تعالت أصوات مشككة في قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الوفاء بالتزاماتها وفقًا للاتفاقية، وحصل ذلك بالتزامن مع حرب فيتنام وكُلْفَتها الكبيرة على الحكومة الأمريكية، ما أدى بالكثير من الدول للبدء بطلب تحويل دولاراتهم إلى ذهب، فاضطر الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون لفك ارتباط الدولار بالذهب، وأدى ذلك إلى بداية عصر تحديد السوق لقيمة العملات بشكل حر.
ومنذ تلك اللحظة بقي الدولار اليوم متوجًا عملةً احتياطية للعالم، ويبقى أهم عملة في النظام المالي العالمي؛ فعلى سبيل المثال فإن أقل نسبة يسجلها الدولار في 25 عامًا بلغت 60% تقريبًا من احتياطات العالم الأجنبية مقومة بالدولار وفق بيانات صندوق النقد الدولي عام 2020، والدولار هو السائد في أغلب التعاملات المالية في العالم عمومًا، من الديون التي تقوم به؛ إلى مبيعات الطاقة وغيرها.
ولكن مع انخفاض حصة الولايات المتحدة الأمريكية من إجمالي احتياطات العالم، والذي لم يكن أمرًا يحدث بالصدفة؛ بل إن جزءًا منه على الأقل راجع -مثلًا- إلى إجراءات روسيا منذ عام 2014 لتخفيف اعتمادها على احتياطات الدولار، فقللت نسبة احتياطاتها الدولارية من 40% من إجمالي الاحتياطات إلى 14% فقط، ومعها إجراءات أخرى صينية يرى البعض أنها قد تهدد مستقبل تسيد الدولار في الاقتصاد العالمي.
وصل الأمر إلى وصف هذه المساعي بأنها محاولة لتشكيل «محور معادٍ للدولار» تقوده روسيا والصين؛ ولكنه قد يضم أيضًا دولًا أخرى تعاني من العقوبات الأمريكية مثل إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية، وقد يدفع دولًا أخرى في العالم لدخوله أو الاشتراك به ولو لم ترد ذلك نتيجة لأهمية الصين في الاقتصاد، وقوة روسيا في قطاع الطاقة أيضًا، في وجه ما يوصف بأنه رغبة أمريكية بالإبقاء على الوضع الحالي لعملتها، وما تستفيد منه في الاقتصاد العالمي؛ بل الاستفادة السياسية المتمثلة بقدرتها على فرض العقوبات كما في الحالة الروسية.
وفي هذا التقرير نناقش وجهة نظر مختلفة؛ لا تقول فحسب إن «العالم عالق مع الدولار»، بل إنها ترى أن هذا الوضع ليس ناتجًا من الاستفادة الأمريكية من هذا النظام وحدها، أو استعدادها للقتال من أجله، بل هو أيضًا حاجة عالمية ملحة، خصوصًا لدول مثل الصين، ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى أنه بالإمكان استبدال هذه العملة في المستقبل القريب.
ليس هذا فحسب؛ بل إن هذه الرؤية تقول إن أكثر سيناريوهات التخلي عن الدولار بصفته عملة للعالم هو إمكانية تخلي الولايات المتحدة عن هذا الدور، لا إجبارها على ذلك، وليس هناك سقوط مصداقية الدولار في العالم بما يمنع استمرار أمريكا في هذا الدور؛ وأكثر من ذلك فإن دولًا مثل الصين ستكون المتضرر الأكبر من مثل هذا السيناريو، على الأقل ما لم يتغير العالم بشكل جذري.
وتعود هذه الرؤية للاقتصادي مايكل بيتيس، الخبير في الاقتصاد الصيني، والمختص تحديدًا في أسواقها المالية؛ وهو أيضًا أستاذ في إحدى جامعات بكين، وزميل غير مقيم في معهد كارنيجي للسلم العالمي، وقبل البدء بعرض رؤيته؛ علينا أن نعرف مفهومين أساسيين هما «الحساب الجاري Current Account» و«حساب رأس المال Capital Account»؛ لأهميتهما في شرح ما سيأتي.