نشرت مجلة "فاينانشال تايمز" البريطانية تقريرًا سلطت من خلاله الضوء على الأسباب التي تقف وراء دعم الحكومة التشيلية للفلسطينيين وحقوقهم المهضومة.
وقالت المجلة، إنه على عكس أي مكان آخر في أمريكا اللاتينية؛ فقد أصبحت فلسطين قضية للسياسيين التشيليين؛ حيث تصدرت تشيلي عناوين الصحف الأسبوع الماضي بسبب رفض الرئيس اليساري غابرييل بوريك قبول أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد، مشيرًا إلى أنباء عن مقتل فلسطيني من قبل القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وأصبح الحادث الذي بالكاد تم تسجيله خارج فلسطين صرخة حاشدة للحكومة التشيلية.
وذكرت المجلة أنه في كلمة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأربعاء، ندد بوريك بالانتهاكات الدائمة لحقوق الإنسان ضد الشعب الفلسطيني ودعا إلى إرساء "دولة حرة وذات سيادة خاصة بهم"، ولاحظ بعض المعلقين المفارقة في اتخاذ تشيلي موقفًا مؤيدًا لفلسطين، في حين أن أبرز سياسي من أصل فلسطيني في أمريكا اللاتينية - الرئيس السلفادوري نجيب بقيلة - كان من الجهات المؤيدة لإسرائيل.
يعكس اختيار بوريك الوقوف مع رام الله ودفء بقيلة مع تل أبيب سياق تاريخ أمريكا اللاتينية، فلطالما كان دعم إسرائيل وسيلة لحكومات أمريكا اللاتينية اليمينية لإظهار تضامنها مع الولايات المتحدة، في حين أن القضية الفلسطينية كانت بمثابة شعار مرفوع لحشد المعارضين اليساريين لقوة الولايات المتحدة، فيما اندمج العديد من المهاجرين الفلسطينيين في النخبة التجارية الموالية للولايات المتحدة في المنطقة، وبينما تميل الجالية المغتربة العربية في تشيلي إلى إعطاء الأولوية لاحتضان تراثهم الفلسطيني؛ فمن الواضح أن بقيلة رجّح الكفة نحو مصالحه السياسية.
ومنذ الحرب الباردة؛ يُنظر إلى إسرائيل على أنها البؤرة الاستيطانية الوحيدة الموالية للغرب في الشرق الأوسط، فحتى بعض الدول الغربية أدانت العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة، فيما استمتعت الولايات المتحدة بلعب دور الداعم لإسرائيل في المنتديات الدبلوماسية.
وأكدت المجلة أن هذه المواقف الدبلوماسية المؤيدة للولايات المتحدة وإسرائيل على حد السواء جلبت العديد من الفوائد المادية المباشرة لبعض البلدان؛ حيث ساعد الدعم الإسرائيلي والتايواني للحكومات المناهضة للشيوعية على كسب الحروب الأهلية وسحق التمرد في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية خلال الثمانينيات. واليوم؛ باتت التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية المتطورة - وخاصة أدوات ملاحقة التهديدات الداخلية - مرغوبة من قبل القادة العسكريين في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال؛ اشترت حكومة هندوراس الكثير من المعدات العسكرية من إسرائيل في السنوات الأخيرة لدرجة أن الكثير من الشائعات تقول أن القوات الإسرائيلية ستتمركز في هندوراس.
وأضافت المجلة أن إسرائيل اكتسبت أهمية دينية؛ حيث انضم ملايين الأمريكيين اللاتينيين إلى الكنائس الإنجيلية، التي يبشر البعض منها بأن ظهور الكيان الإسرائيلي هو بمثابة تحقيق لنبوءة مسيحية، ويشكل هؤلاء الآن كتلة تصويت يمينية مهمة في جميع أنحاء القارة. في المقابل، نصبت الأحزاب اليسارية المعارضة للنفوذ الأمريكي نفسها من الدولة المؤيدة لفلسطين.
ولفتت المجلة أنه على غرار باقي المهاجرين في جميع أنحاء العالم، انتهى المطاف بنصف مليون فلسطيني من أمريكا اللاتينية الذين تبنوا وجهات نظر سياسية مختلفة، وقد حققت الجالية المغتربة الفلسطينية نجاحًا كبيرًا في أمريكا الوسطى؛ حيث استقرت العديد من العائلات التجارية المسيحية من بيت لحم في أواخر العهد العثماني، وعلى الرغم من أنهم واجهوا الكثير من الممارسات التمييزية في البداية، إلا أن الأسماء العربية تمثل الآن رمزا للثروة والنفوذ في المنطقة، كما انخرط الفلسطينيون في السياسات المحلية، كثوار ومدافعين عن القضية الفلسطينية.
في الواقع؛ وكانت انتخابات السلفادور عام 2004 منافسة بين مرشحين فلسطينيين؛ حيث كان أحد المرشحين اليسارين هو شفيق حنضل الذي خسر أمام أنطونيو ساكا، رجل الأعمال اليميني، وكليهما تنحدر جذورهما من بيت لحم.
ويتداخل بقيلة بين جانبي السياسة الفلسطينية السلفادورية، حيث برز بين صفوف حزب جبهة فارباندو مارتي للتحرير الوطني بزعامة حنضل لكنه انفصل عن الحزب في عام 2017، واتهمه علنًا بالفساد والعنصرية ضد الفلسطينيين. منذ ذلك الحين؛ تبنى بوكيلة مجموعة من السياسات اليمينية.
بعد فوزه بالرئاسة في عام 2019، استغل بقيلة حسن نيته المؤيدة لإسرائيل حيث ذهب في جولة برعاية الحكومة إلى إسرائيل وصلى عند حائط المبكى وتحدث عن الجذور اليهودية لزوجته، وفي مقابلة مع موقع إخباري عربي، قال بقيلة إن الفلسطينيين يجب أن يسعوا لأن يكونوا "مسالمين ومنفتحين للعمل" داخل دولة "أصغر من تلك" الموعودة في اتفاقيات أوسلو للسلام.
وذكرت المجلة أنه على بعد مئات الأميال إلى الجنوب؛ تستضيف تشيلي أكبر جالية فلسطينية في العالم في الخارج، ومثل مواطني أمريكا الوسطى، يميل الفلسطينيون التشيليون إلى أن يكونوا مسيحيين وأثرياء ومحافظين.
ومع ذلك؛ فإن الجالية العربية في تشيلي بقيت ذات صبغة قومية بشدة؛ حيث إن هناك منظمات جالية عربية كبيرة وذات صوت مسموع، بما في ذلك فريق كرة قدم يُدعى "بالستينو" الذي يهتف جمهوره بشعارات عن غزة.
ولا يواجه اليمينيون الفلسطينيون التشيليون نفس الضغط لتبني السياسات الموالية لإسرائيل مثل مواطنيهم في أمريكا الوسطى. على العكس من ذلك؛ أصبحت فلسطين قضية للسياسيين التشيليين من كِلا الحزبين: الاشتراكيين العلنيين والمتعاونين السابقين مع الدكتاتور العسكري اليميني أوغستو بينوشيه.
كان دانيال جادو، الشيوعي الفلسطيني، المرشح المفضل لفترة وجيزة للفوز بالرئاسة التشيلية في عام 2021، على الرغم من أن عائلة جادو (حدوة) هاجرت في عشرينيات القرن الماضي، إلا أنها استمرت في التحدث باللغة العربية في المنزل وبقيت على اتصال بأبناء عمومتهم الذين يرزحون تحت الاحتلال الإسرائيلي، وكان والد جادو من أنصار بينوشيه، لكن جادو وجد نفسه منجذبًا إلى الفصائل الفلسطينية اليسارية، وهكذا انخرط في السياسة.
وبحسب المجلة؛ خسر جادو في النهاية حزبه في الانتخابات التمهيدية لصالح بوريك، وهو أكاديمي من أصول كرواتية. ولم يكن بوريك أقل قوة في دعمه للقضية الفلسطينية، مشيرًا إلى إسرائيل على أنها دولة "قاتلة" وقامت "بإبادة جماعية" ودعم مقاطعة المنتجات الإسرائيلية.
في الانتخابات العامة؛ واجه بوريك خوسيه أنطونيو كاست، الذي شغل شقيقه منصبًا رفيع المستوى في نظام بينوشيه. فاز بوريك، وفي أول مقابلة له كرئيس، اختار فلسطين كأولوية في السياسة الخارجية لتشيلي.
وكان المرشحون الثلاثة قد واجهوا اتهامات معاداة السامية؛ حيث اتُهم كل من بوريك وجادو بالترويج لخطاب معاد للسامية، بينما كان والد كاست المولود في ألمانيا عضوًا في الحزب النازي خلال الحرب العالمية الثانية، ورغم ذلك دعم كاست إسرائيل، حيث قام بزيارتها مرتين وعمل في لجان برلمانية تشيلية إسرائيلية مشتركة.
وختمت المجلة تقريرها بالقول إنه ربما تكون هذه علامة على أن تشيلي تقترب أكثر من بقية القارة، حيث أظهر اليمين المزيد من التقاربات الواضحة لإسرائيل وفلسطين لتصبح قضية يسارية بشكل واضح، فبعد الخلاف مع السفير الإسرائيلي الأسبوع الماضي؛ انحاز كاست إلى الجانب الإسرائيلي، وأشار إلى أن الشاب الفلسطيني الذي قتلته قوات الاحتلال الإسرائيلي لم يكن مدنيًّا بل مسلحًا.