لا شك أن الحُلم يعد من أشرف الأخلاق، وأحقها بذوي الألباب لما فيه من سلامة العِرض وراحة الجسد، واكتساب الحمد فقال صلى الله عليه وسلم: "من حَلَم ساد، ومن تفهّم ازداد". وروى أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إني أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة.... "خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين" كما أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن مكانة الحليم عند ربه فقال: "إنّ الله يحب الحليم الحيي، ويبغض الفاحش البذيء". وقال علي رضي الله عنه في نصرة الحليم: "أول عِوض الحليم عن حلمه أنّ الناس أنصاره. ولله درُّ الشاعر إذ قال: ومـن هـاب الرجـال تهيّبوه *** ومـن حقّر الرجالَ فلن يُهابا وحدُّ الحلم ضبط النفس عند هيجان الغضب، وهذا يكون عن باعث وسبب، قال أبو الدرداء رضي الله عنه لرجل أسمعه كلاماً: " يا هذا لا تغرقنَّ في سبنا، ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عزّ وجلّ فيه. وحكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق جلس يوماً لعطاء الجند وأمر مناديه أين عمرو بن جرموز وهو الذي قتل أباه الزبير فقيل له: أيها الأمير إنه قد تباعد في الأرض، فقال: أو يظنّ الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله، فليظهر آمناً ليأخذ عطاءه وافراً، لكن البعض عدَّ ذلك مستحسن الكبر. وقال أحدهم في المعنى ذاته: أو كلما طنَّ الذباب طردتُه *** إنّ الذباب إذاً عليَّ كريمُ وقصة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي أعطاه الرسول فلم يرض لزعمه أنه قليل فغضب الصحابة منه لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه إلى بيته وأجزل له حتى رضي وأمره أن يعلن أمام الصحابة أنه رضي، وقرّت عينه فبعد أن قال: ما أوفيت وما أجزيت قال: لقد أجزيت وأوفيت فجزاك الله من كريم خيراً، فكان قوله صلى الله عليه وسلم سبباً في دخول الأعرابي الإسلام. وهذا الإسكندر قيل له: إن فلاناً وفلاناً ينقصانك ويثلبانك فلو عاقبتهما. فقال: هما بعد العقوبة أعذر في تنقصي وثلبي، فكان هذا تفضلاً منه وتآلفاً. وقد قيل: الحلم حجاب الآفات. والرفق في التعامل مع الأخرق حلم ونجاة. وقال أحد الحكماء: غضب الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله. وقد قالت الحكماء: ولعلَّ من المقبول أن يجتمع في قوم ذوو أحلام وجهال، فقد يكمل بعضهم بعضاً، وقد أنشد النابغة الجعدي أمام النبي صلى الله عليه وسلم: ولا خير في حلم إذا لم يكن له *** بوادرُ تحمي صفْوَه أن يُكدَّرا ولا خيرَ في جهل إذا لم يكن له *** حليم إذا ما أوردَ الأمرَ أصدرا فلم ينكر صلى الله عليه وسلم قوله عليه. وقال المنصور: إذا كان الحلم مفسدة كان العفو مَعْجَزَة وقال عمرو بن العاص: أكرموا سفهاءكم فإنهم يقونكم العار والشنار، واتفق معه مصعب بن الزبير حين قال: ما قلَّ سفهاءُ قوم إذا ذلّوا. كما يعد الحلم أحد مزايا حلم التغاضي، فقد روي أن رجلاً ذهب للجهاد في سبيل الله ، ولما عاد وقبل أن يصل بيته قيل له أن زوجتك مرضت بالجدري وتشوه وجهها كثير فذهب بجمالها، تلقى الرجل الخبر بصمت وحزن عميقين، فآثر هذا الرجل أن يتظاهر بأنه أعمى طيلة نحو عشر سنوات، فلما توفيت زوجته فتح عينيه ليعود مبصراً، حيث أدرك الجميع حينها أن الرجل أغمض عينيه طيلة هذه الأعوام كي لا يجرح مشاعر زوجته عند رؤيته لها، تلك الاغماضة لم تكن من أجل الوقوف على صورة جميلة لزوجته ومن ثم تثبيتها في الذاكرة والاتكاء عليها كلما لزم الأمر، لكنه من باب المحافظة على سلامة العلاقة الزوجية. الأمر الذي يعلم الناس بشكل عام والقادة بشكل خاص أنه وللحفاظ على سلامة العلاقة مع من نحب والمحافظة على مشاعرهم لا بأس من أن نغمض أعيننا عن هفواته وزلاته، وحتى في وضع لا يوجد له حل من أجل سعادتنا وسعادة من نحب ونكون ممن أغمض عينيه قليلاً عن عيوب الآخرين وأخطائهم كي لا يجرح مشاعرهم. وقال أحد البلغاء: ليس من عادة الكرام سرعةُ الانتقام، ولا من شروط الكرم إزالةُ النعم. لذلك لو احتكمنا جميعا للقاعدة التي تقول فلنعمل سويا فيما اتفقنا فيه وليعذر بعضنا بعضاً في اختلفنا فيه، إذاً لتقدمنا على جميع الأصعدة خصوصاً تلك التي سببت انقسامنا وتشرذمنا وضعفنا وهواننا عند أعدائنا. ولكن عندما تغيب الأحلام فإنه تسود روح الانتقام ويشيع البغض والكراهية والانقسام، سواء على الصعيد الفردي أو الجمعي ، وعندها يا ويلنا من قادة بلا أحلام...
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.